انتهى زمن «تقطيع الوقت»، و«تدوير الزوايا» لم يعد بضاعة قابلة للتسويق. التحدي كبير وواضح، فإما خطوات متكاملة تستعيد معها الدولة سيادتها وقرارها أو تتسع الاستباحة الإسرائيلية؛ فالاحتلال قد يتجاوز جنوب الليطاني: بدأ العدو الإسرائيلي يظهر حجم المنطقة العازلة متجاوزاً احتلاله التلال الخمس، إلى إقامة مناطق عازلة محرمة على أهل الأرض تمتد على أنقاض 18 بلدة حدودية وفق تقرير عسكري للجيش اللبناني. وتوازياً، ازدهرت المقاومة الصوتية بوهم القدرة على العودة بالزمن إلى ما قبل 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليبقى لبنان مُصادَر القرار من جانب «حزب الله».
ولأن التسليم بالأمر الواقع كان سيصبح الخيار الأسوأ؛ كونه يتجاهل التحدي الفعلي وهو أبعد من سلاح لا شرعي انتهت صلاحيته، سقط في الاستحقاقات، لا إمكانية لاستخدامه ضد العدو الإسرائيلي في أي وقت... حتى أن أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم «طمأن» المستوطنين في شمال إسرائيل بأنهم غير مستهدفين، وهو القائل: «لسنا جاهزين لشن معركة، ولا يوجد لدينا قرار بمبادرة قتال». وشدد النائب محمد رعد على «الالتزام بشكلٍ حازم بإعلان وقف النار رغم استباحة العدو»، وغابت كلية سردية الادعاء بأن «الكلمة للميدان»... فإن المسؤولية تحتم على أصحاب القرار الإقدام لملاقاة طموح اللبنانيين بالانتقال بالبلد من وضعٍ مأزوم غير طبيعي، طوى زمنه زلزال المنطقة والزلزال اللبناني، إلى وضع البلد العادي، الذي تأخر لبنان عقوداً قبل بدء الانتقال إليه.
في هذا التوقيت اتخذت بيروت القرار الأهم منذ بدء رئاسة نواف سلام للحكومة، وقضى بتعيين سيمون كرم رئيساً للفريق اللبناني في لجنة «الميكانيزم»، وهو سياسي مجرب يمتلك الكفاءة والصلابة الوطنية. فأثار التعيين الارتياح والتأييد الواسعين. وبمعزل عن أن القرار لاقى المطالبة الأميركية بالذهاب إلى التفاوض الذي أكده اتفاق وقف النار في البند الـ13، فإنه وضع في التنفيذ تعهد البيان الوزاري بخوض مواجهة سياسية ودبلوماسية مع العدو الإسرائيلي لضمان أمن البلد والحفاظ على حقوقه الوطنية.
لقد تم وضع كرة نار بين يدي سيمون كرم، الذي ستكون أولويته فرملة الهزيمة عند الحدود التي بلغتها، ووقف تراكم الخسائر التي باتت فوق طاقة البشر... كرة نار، على المفاوض اللبناني الموثوق أن ينهض بأعبائها، في تجربة معقدة ليست مضمونة النجاح في اختبار آفاق القدرة على العودة إلى اتفاق الهدنة لعام 1949، بالتوازي مع الحاجة الوطنية إلى تطبيق جدي لاتفاق وقف الأعمال العدائية، وتجنيب البلد أخطار ذهاب إسرائيل إلى ما يسميه نتنياهو «استكمال المهمة»، أي استكمال تدمير البلد بذرائع من نوع القضاء على محاولات «حزب الله» ترميم قدراته العسكرية.
حالة الإنكار التي يعيشها «حزب الله» وغربته عن الواقع وعن الوجع الذي تسبب فيه لكل لبنان، والأذية المباشرة والعميقة للجنوبيين، دفعته إلى القفز إلى الأمام ملبياً «رغبات» ومشاريع إقليمية، وأن يهدد بمواجهة الدولة دفاعاً عن السلاح ورافضاً تسليمه للجيش. ما سيمثّل عنصر إعاقة جدية للمفاوض اللبناني، يحتم على السلطة، والأمر متيسر ولا يقبل لو، الخروج كلية من السياسات الرمادية إلى الحزم في التمسك بالقرار السياسي نزع السلاح حمايةً للخطوات الميدانية ودفعاً للتفاوض.
لقد بات تحصيل حاصل طي زمن التلطي أحياناً خلف العنوان التقني للتفاوض، فما لبنان بصدده اليوم أبعد وأصعب في زمن الهزيمة والانكسار العميق والخلل المخيف بموازين القوى. لذا؛ إن كان أول أهداف المفاوضات وقف الاعتداءات كأولوية لا يتقدم عليها أي أمر آخر؛ لأنها تفتح باب استكمال بسط السيادة، فإن الممر الإلزامي لذلك يكمن بالأداء السياسي الميداني الداخلي لتكامله مع عملية التفاوض، أي وقف الأسباب المباشرة لهذه الاعتداءات، وهذا ما شدّد عليه اتفاق وقف النار في مقدمته عندما خلص إلى حصر السلاح على كل الأراضي اللبنانية بيد قوى الشرعية. وكذلك بتنفيذ البند السابع من الاتفاق الداعي إلى تفكيك البنى العسكرية الرديفة ومصادرة تجهيزاتها وعتادها، أي إقفال الأبواب والنوافذ على أي تفكير بالقدرة على العودة إلى ما كان عليه الحال قبل إعلان الراحل حسن نصر الله يوم 8 أكتوبر 2023 حرب «المشاغلة» فـ«الإسناد».
إلى ذلك، يدرك من بيدهم القرار أن ما حملته الوفود الزائرة، كما ما تردد على مسامع المسؤولين في زياراتهم الخارجية، حمل دعوات صريحة لمواجهة الاقتصاد الموازي. كذلك المسؤولية عن تفكيك منظومة خطرة تداخلت فيها مصالح الميليشيا مع المافيا الناهبة، فاستمر إمساكها بمفاصل اقتصادية مالية وإدارية وحتى أمنية، تمنع الاستعادة الفعلية للدولة القادرة والعادلة صاحبة المرجعية الوحيدة للشرعية والانتماء.
توازياً مع بدء المرحلة الجديدة من المفاوضات، فإن الخطى المنتظرة داخلياً هي التي يمكنها خلق الاحتضان العربي للبنان مدخلاً لتوافقٍ مع الأميركيين، لبنان بأمس الحاجة إليه لصد الكثير من عربدة إسرائيل وأطماعها.
حنا صالح
