قد تندلع خلافات البشر أحياناً بسبب كلمة واحدة أُسيء استخدامها. ففي عام 1945 استيقظت الصحافة العالمية على مانشيتات لترجمة غير دقيقة لمفردة «موكوساتسو» التي أطلقها رئيس الوزراء الياباني آنذاك ردّاً على عرض التحالف المضاد. وكان يقصد بها «نتعامل بصمت مع الأمر» أو «نتناقش بصمت» وهي دلالة مفهومة يابانياً، لكن الصحافة الأجنبية ترجمتها إلى «لا تستحق التعليق»، فبلغت بهذه الصيغة مسامع الرئيس الأميركي هاري ترومان. فبُني عليها الفهم الشائع بأن اليابان ترفض عرض السلام فتعرضت لأبشع قنبلة ذرية في تاريخ البشرية راح ضحيتها 200 ألف إنسان. وهذا مثال صريح على أن مفردة واحدة كان يمكن أن تنزع فتيل الأزمة.
هذا المثال الصادم يذكّرنا بأن كثيراً من النزاعات ليست سوى سوء فهم، وأن كلمة واحدة قد تدفع أطرافاً نحو مواجهة كانوا في غنى عنها، أو تقرّبهم نحو حلّ لم يكونوا يرونه ممكناً.
معظم النزاعات لا تحتاج إلى تعقيد، بل إلى فهم طبيعة الخلاف ومستواه، أي هل هو خلاف معلومات؟ أم مصالح؟ أم هويّات وقيم؟ فلكل مستوى «مفتاح»، ولكل باب طريقة مختلفة للدخول.
هناك 3 أنواع من محاولات تقريب وجهات النظر، سهلة، ومتوسطة، وصعبة جداً. فحينما يكون الخلاف معلوماتياً محضاً، مثل سوء فهم إداري فبمجرد إظهار الحقائق أو الأرقام أو التقرير تهدأ حدة المواجهة. وهناك مهمة متوسطة الصعوبة تظهر حينما يختلف الطرفان في المصالح غير أنهما سيتريثان إذا ما أدركا أن خسارة تداعياتها مشتركة. أما أصعب مهمات تقريب وجهات النظر فتلك المتعلقة بالقيم والهوية. ولذلك ينجح في هذا الدور «المصلح الاجتماعي» والمفكر وما شابه.
من أشكال اختلاف وجهات النظر، تباين المصالح والطباع والشخصيات. ونلاحظ اختلافاً حاداً بين من يأتي من خلفيات ثقافية مختلفة، كالمهندس والطبيب مع السياسي وغيره. ولا بد أن نعترف بأن الناس قد يختلفون في الحوار، فهناك من تميل شخصيته إلى الجدال فهو يعارض لأنه يستلذ بالمعارضة. وهناك من يبحث عن هيبته، وهناك المتردد، والعاطفي، والعقلاني وكل شخصية تحتاج إلى مدخل يناسبها لتقبل محاولات رأب الصدع.
يمكن تقريب وجهات النظر عبر تحديد نوع الخلاف. ومن ثم إيجاد منطقة التقاء مشتركة، فضلاً عن إضفاء الطابع الإنساني على الحوار وإعطاء جميع الأطراف شعوراً بأن أطروحاتهم قد لقيت آذاناً صاغية.
تفشل مساعي تقريب وجهات النظر حينما يكون الهدف تحقيق «الانتصار» على حساب الحل، وعندما تكون الحقائق عرضة لتأويلات متعمدة، وعند اختلاط المصالح الشخصية بالمصلحة العامة. فكل مَن يقف أمام مصلحتي سأتصدى له بكل ما أوتيت من قوة. ولا بد من أن نعترف بأن هناك مَن يعتبر غير قابل للحوار إطلاقاً لأنه أصلاً لا يؤمن به أو يعتبره ضعفاً، فهو يؤثر منطق الاستفراد بالرأي.
بعض القضايا نتباين حولها، كالناظر إلى الهرم العملاق، كل يراه من زاويته ويتخيل حجمه بحسب قربه أو بعده منه. الهرم حقيقة واحدة لكن زوايا الرؤية تختلف باختلاف خبراتنا، وقوة حواسنا ومهاراتنا... وحدسنا.
د.محمد النغيمش
