جزيرة غوري.. جرح الذاكرة وإرث الإنسانية (تقرير)

تقرير الشيخ عبد اللطيف – داكار، السنغال

 

على بُعد ميلين بحريين من سواحل العاصمة السنغالية داكار، وفي رحلة بحرية لا تتجاوز الثلاثين دقيقة، تجلس القرفصاء على متن قارب صغير، يتمايل بك كغصن بلله الندى. القارب، المتخم بالركاب من مختلف الجنسيات والأعراق، تملأه أصوات عشرات اللغات تتحدث عن مشهد الجزيرة الغافية في حضن الماء، تحفها من كل الجهات، ووجوه الركاب لا تُخفي قسماتها الحزينة، وقد امتزج الجمال بالحسرة على ما سمعوه ويعلمونه عن جزيرة العبيد، وعن قهر الإنسان لأخيه الإنسان، وكأن الماضي لا يزال يُعاش حيًّا في ذاكرة المكان.

قبل الوصول، تشرئب الأعناق نحو الأفق، حيث تلوح الجزيرة كندبة على جسد الزمن، وقد انكشف عنها وشاح البحر لتبدو كنتوء بارز في عرض المحيط.

وعند الوصول، تتدافع الجموع، والعيون ترمق التاريخ المسجى على صفحة الماء. تُحملك أجساد النازلين دون جهد، إذ تسبقهم فرحتهم باكتشاف المكان.

منذ القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر، تعاقب على احتلال هذه الجزيرة مستعمرون برتغاليون وهولنديون وبريطانيون وفرنسيون، قبل أن تعود ملكيتها إلى أهلها الأصليين.


نصوص التاريخ المؤلم مكتوبة على صفحة من ماء

تُعد جزيرة غوري رمزًا قويًا لما يُعرف بـ"المأساة الإفريقية"، فقد استخدمها الأوروبيون الذين تعاقبوا على احتلالها من عام 1444م حتى استقلال السنغال سنة 1960م، كمحطة رئيسية لتجميع الأفارقة ونقلهم عبر الأطلسي لبيعهم كعبيد في "العالم الجديد".

وتُقدّر بعض الدراسات أن أكثر من 20 مليون إفريقي مرّوا من خلالها، بينما تم بيع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في "بيت العبيد" الشهير، الذي بُني في أواخر القرن الثامن عشر. ولا تزال غرفة "باب اللاعودة" فيه تُثير القشعريرة في نفوس الزوار حتى اليوم.


بيت العبيد.. صراخ الصمت ونور الظلام

يُعد "بيت العبيد" (La Maison des Esclaves) المعلم الأبرز من بين 24 مزارًا سياحيًا في الجزيرة، رغم صغر مساحتها، وقد تحوّل إلى متحف تاريخي وذاكرة عالمية.

يتكون المبنى من طابقين:

الطابق الأرضي: حيث الزنازين المظلمة التي كانت تُحتجز فيها النساء والرجال وحتى الأطفال في ظروف مهينة، استعدادًا لبيعهم وشحنهم نحو أوروبا وأمريكا.

الطابق العلوي: يطل على البحر، ويضم أفخر الأثاث وأطيب الأطعمة، ويسكنه التجار الأوروبيون. وهو مفارقة صارخة بين حياة السادة والعبيد.


ويُجسّد "باب اللاعودة" لحظة الانفصال الأبدي عن الأرض الأم. فبعد ثلاثة أشهر من الحجز والإذلال، كان يُجبر العبيد على عبور هذا الباب نحو السفن، دون علم بمصيرهم المجهول.

المدفعية والمعلم وأمدو مامودو

المرشد السياحي أمدو مامودو هوليبا، وهو من أبناء الجزيرة، يتحدث عدة لغات، شأنه شأن أغلي افراد أسرته الذين يتقنون لغات المستعمرات الأربع. والده، الذي جاء بعيد الاستعمار الفرنسي، ساهم في بناء معظم بيوت المدينة الصغيرة.

قام أمدو بترميم قبو القلعة الأعلى في الجزيرة، حيث كانت تُخزن الذخيرة وتُلقّم المدافع العملاقة المنصوبة على التلة، والتي كانت مخصصة لحماية مدينة داكار. يبلغ مدى هذه المدافع 15 كلم، وتزن الذخيرة الواحدة 55 طنًّا، وهي قادرة على إغراق سفينة كبيرة.

وقد استخدمت هذه المدافع مرتين فقط، إحداهما في الحرب العالمية الثانية، حيث أغرقت سفينة بطول 72م. والمرة الثانية في أحد مشاهد فيلم أمريكي يُرجّح أنه The Guns of Navarone (ربما 1961)، أو فيلم The Nun's Story، حيث صُورت بعض مشاهده على الجزيرة.

يقول مامودو:

 "هل لاحظت استدارة القارب قبل وصولنا؟ لقد تجنّب المرور فوق منطقة السفينة الغارقة، التي أصابتها طلقة من هذه المدفعية وغرقت بطاقمها إلى اليوم".

 

الزنازين.. مأساة بأبعاد الجدران

عندما يتحدث مامودو عن العبيد، تغرورق عيناه، ويروي بحرقة كيف جُمِع الأفارقة من كل أنحاء القارة، بعد اختطاف الأطفال من أمهاتهم، والنساء من أزواجهن، تحت وطأة السلاسل والسياط.

كانوا يُقيَّدون من الرقبة واليدين والأرجل، ويُكدّسون في غرف لا تتجاوز مترين طولًا وعرضًا، بمعدل 12 شخصًا في الغرفة الواحدة. تُفتح الزنازين مرة واحدة يوميًا لتقديم وجبة واحدة، والسماح بقضاء الحاجة، ثم تُغلق مجددًا وسط حرارة خانقة وسيول الأمطار على أرضية مبللة ومالحة.

بُني بيت العبيد سنة 1780، بثلاثة عنابر:

للرجال

للنساء

للأطفال حديثي الولادة، يُفصلون عن أمهاتهم


كما توجد قاعة خاصة للوزن، حيث يُعاد من لا يبلغ 60 كلغ لتسمينه قبل بيعه أو مقايضته. وتضم الغرف الأخرى مساحات صغيرة لا تتجاوز 2×2.6 م.


غوري.. موقع مصنف ضمن التراث العالمي

في عام 1978، صنّفت اليونسكو جزيرة غوري ضمن قائمة التراث العالمي، اعترافًا بمكانتها الرمزية والتاريخية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت وجهة مفضّلة للسياح والباحثين، ونشطاء حقوق الإنسان، وقادة العالم الذين يأتون للتأمل والتكفير عن ماضٍ أليم.

ومن أبرز زوارها: نيلسون مانديلا، باراك أوباما، والبابا يوحنا بولس الثاني، وجميعهم عبّروا عن ألمهم وتأثرهم بعد زيارة بيت العبيد.


مدينة بلا ضوضاء ولا عوادم

رغم هذا الإرث الثقيل، فإن غوري اليوم فضاء هادئ منعزل عن العالم، نابض بالحياة. فهي جزيرة بلا سيارات، وشوارعها الضيقة الملوّنة تشبه أزقة مدينة شنقيط القديمة، ومنازلها لا تزال تحتفظ بطابعها الاستعماري، وتُصنّف بالألوان حسب الحقبة:

الأحمر للهولنديين

الأبيض للبرتغاليين

الأصفر للفرنسيين والبريطانيين


الجزيرة تحتضن الفنانين والحرفيين، وتضم معارض للفن الإفريقي، كما تُقام فيها مهرجانات ثقافية وموسيقية سنوية لإحياء الذاكرة وصناعة مستقبل مختلف.


جزيرة العبيد.. دعوة للتفكر والمصالحة

غوري ليست مجرد موقع أثري أو وجهة سياحية، بل مرآة تاريخية تجبر الإنسانية على مواجهة ماضيها بشجاعة، وتقدم دعوة صريحة إلى المصالحة، والعدالة، والاعتراف.

زيارة غوري لا تترك الزائر كما كان، بل توقظ فيه أسئلة وجودية عن الكرامة، والظلم، والحرية، وتدفعه للتأمل في حاضر إفريقيا ومستقبلها.

تظل غوري "أميرة البحر" بألوانها الزاهية، متبتلة في محراب الصمت، صامدة أمام الزمن، وناطقة باسم ملايين الأرواح التي عانت ظلم العبودية.

إنها اليوم بمثابة ضمير حيّ للقارة السمراء، وجرس تنبيه للضمير الإنساني الصادق، الحالم بعالم لا يُكدره ماضٍ أليم، بل يُلهمه للسير نحو الصلح والصفح والسلام.