يدرس هارولد بلوم في كتابه «التقليد الأدبي الغربي» (ترجمة د. عابد إسماعيل) ستة وعشرين كاتباً من منظور لا يخلو بالضرورة من النوستالجيا، إذ يسعى بلوم من خلاله إلى فرز تلك الخصائص التي جعلت هؤلاء المؤلفين مرجعية في الثقافة الغربية.
توزَّع كتاب بلوم في أربعة أجزاء عنونها بالعصر الأرستقراطي ابتداءً من دانتي، وتشوسر، وسرفانتس، مروراً بمونتان، وموليير، وشيكسبير، وميتلون، وصمويل جونسون، انتهاءً بفاوست. ثم العصر الديمقراطي ابتداءً بوردزورث، وأوستن، وويتمان، وإميلي ديكنسون، مروراً بديكنز، وجورج إليوت، وتولستوي، انتهاءً بإبسن. ويبدأ العصر الرابع بفرويد، وبروست، وجويس، مروراً بفرجينيا وولف، وكافكا، وبورخيس، ونيرودا، وبيسوا، انتهاء بصمويل بيكيت. ويردفُ الكتابَ بملحقٍ يضمُ مئات المقترحات للقراءة من كتب التقليد الأدبي على وجه الخصوص، وبعض العناوين من خارج التقليد الغربي.
يقول بلوم: «حاولت مع معظم هؤلاء الكتاب الستة والعشرين أن أواجه العظمة مباشرة، وأسأل: ما الذي يجعل مؤلفاً أو يجعل أعماله جزءاً من التقليد المعترف به، وكان الجواب في كثير من الأحيان هو الغرابة، والأصالة الإبداعية التي إما أنها لا يمكن تمثلها، وإما أنها تتمثلنا، لدرجة أننا لا نعود نراها غريبة».
حين تقرأ عملاً قوياً للمرة الأولى فإنك تصطدم بالغرابة، أو بدهشة مروعة، وليس مجرد إشباع للتوقعات، اقرأ من جديد وستجد أن القاسم المشترك بين «الكوميديا الإلهية وعوليس وفاوست والفردوس المفقود والنشيد الشامل» هو القدرة على إدهاشك.
*صراع
يشير بلوم إلى أن الكتاب المعاصرين لا يحبون أن يقال لهم إنهم يجب أن يتنافسوا مع دانتي وشكسبير، ومع ذلك فإن ذاك الصراع كان محرض جويس إلى العظمة، وإلى فرادة لم يشاركه فيها أحد سوى بيكيت وبروست وكافكا من بين الكتاب الغربيين الحداثيين، بعد شكسبير ثمة حفنة قليلة من الكتاب شقوا طريقهم متحررين نسبياً من قلق التأثر به ومن هؤلاء ميلتون وموليير وجوته وتولستوي وإبسن وفرويد وجويس، وكان شكسبير بالنسبة لهم معضلة كبرى.
إن قلق التأثر – كما يوضح بلوم - يشل المواهب الأضعف، لكنه يحرض ويلهم العبقرية، إن ما يجمع معاً ثلاثة روائيين أمريكيين خلاقين (هيمنجواي، فيتزجيرالد، فوكنر) هو أنهم جميعاً انطلقوا من تأثير كونراد، لكنهم استطاعوا ترويض التأثير بحنكة.
يقول بلوم، إن الكتاب الأقوياء لا يختارون أسلافهم الكبار، بل يتم اختيارهم من قبل هؤلاء الأسلاف، وهم يمتلكون الحنكة الكفيلة بتحويل هؤلاء إلى كائنات مركبة، وبالتالي متخيلة جزئياً، ولست معنياً مباشرة في هذا الكتاب بالعلاقات التناصية القائمة بين هؤلاء المؤلفين الستة والعشرين، إذ إن غايتي هي تناولهم كممثلين للتقليد الغربي برمته.
*تعددية
التقليد في الأصل – كما يرى بلوم – يعني اختيار الكتب في معاهدنا التعليمية، وبالرغم من السياسة الراهنة التي تراعي التعددية الثقافية يظل سؤال التقليد الحقيقي مشرعاً: ما الذي يمكن أن يقرأه الفرد الذي لا يزال يرغب في القراءة، في هذا الوقت المتأخر من التاريخ؟ إن السنوات لم تعد كافية لقراءة أكثر من حفنة مختارة من الكتاب العظام، في ما يمكن تسميته بالتقليد الغربي، فضلاً عن جميع التقاليد الأخرى في العالم.