أعمال علي الزنايدي المفتوحة على تونس العتيقة

في المشهد التشكيلي التونسي الحديث، يبرز اسم علي الزنايدي بوصفه أحد الفنانين الذين نجحوا في صياغة لغة بصرية خاصة، متكئة على تفاصيل الحياة اليومية ومشاهدها البسيطة. الزنايدي (1950) المولود في مدينة تونس العتيقة، اختلطت طفولته بمشاهد الأسواق الشعبية والأزقة الضيقة والحرفيين الذين يملأون المكان بأصواتهم وألوانهم. هذا المخزون البصري ظل يرافقه لاحقاً حين التحق بالمعهد العالي للفنون الجميلة في تونس، وتخرّج منه عام 1975، قبل أن يتفرغ للتدريس وممارسة الفن على امتداد عقود.

يقدّم الفنان خلاصة هذه التجربة الطويلة في معرض استعادي يتواصل في مركز الفن الحي "دار الفنون" بتونس العاصمة حتى نهاية الشهر الجاري، تحت عنوان "رحلة بين ألوان وأضواء- 1975 - 2025" يضم أكثر من ستين عملاً تمثل نماذج متنوعة من تجربته البصرية.

منذ بداياته الأولى، بدا الزنايدي مشغولاً بالإنسان في محيطه الشعبي، إذ لم يتعامل مع الحيّز الحضري باعتباره خلفية جامدة، بل جعله جسداً نابضاً بالحركة، قادراً على احتضان ملامح الناس وتحوّلاتهم اليومية. فالأزقة عنده ليست مجرد خطوط معمارية، بل فضاء تتشابك فيه العلاقات الإنسانية، وتتشكل خلاله درجات اللون التي تستعيد ضجيج الأسواق ورائحة المقاهي القديمة. بهذا المعنى، يمكن القول إن الزنايدي قدّم شهادة بصرية على تحولات المدينة التونسية، من خلال لوحات تحمل شيئاً من الحنين وشيئاً آخر من الانتباه لِما يتغير.

أسلوبه الفني تطوّر بين مرحلتين أساسيتين، الأولى أقرب إلى الواقعية، حيث رسم المشاهد الشعبية والتفاصيل المألوفة بوعي توثيقي. أما الثانية، فجاءت أكثر انفتاحاً على التجريب، إذ اتجه نحو صياغات تمزج بين التشخيص والتجريد، وتمنح اللون مكانة مركزية في بناء اللوحة. في معالجاته الفنية كان الزنايدي دائماً حريصاً على أن يظل الشكل متماسكاً، لكنه في الوقت نفسه يترك للألوان حرية الحركة، بما يضفي على أعماله ذلك الإيقاع الداخلي المميّز. هذا الإيقاع الذي يميز أعمال الفنان يجعل المشاهد يعيش تجربة مزدوجة، فمن جهة تبدو اللوحة نافذة مفتوحة على الملامح البصرية للشارع التونسي، ومن جهة أخرى يجد المشاهد نفسه متورطاً في تتبع هذه الصياغات الشكلية التي لا تخلو من المتعة البصرية الخالصة.

يزاوج بين التوثيق الجمالي والانفتاح على مغامرة اللون  
خلال مسيرته، لم يكن الزنايدي فناناً منعزلاً عن المشهد الثقافي الأوسع، بل ساهم عبر التدريس والمعارض الجماعية في صياغة خطاب تشكيلي تونسي حديث، حاول أن يوازن بين الخصوصية المحلية والانفتاح على تجارب العالم. ومن اللافت أن أعماله، رغم انغماسها في تفاصيل البيئة التونسية، كانت تحظى بالقبول في المحافل الدولية، حيث شارك في معارض عدة ونال جوائز مرموقة، منها الجائزة الأولى للفن المعاصر بمدينة "سان فيتو" الإيطالية سنة 1991، وجائزة لجنة التحكيم للفن المعاصر العربي في أبو ظبي سنة 1995، فضلاً عن الجائزة الكبرى لمدينة تونس سنة 2010. وفي العام نفسه، مُنح الوسام الثالث للاستحقاق الثقافي للجمهورية التونسية، اعترافاً بمكانته في المشهد التشكيلي الوطني.

لا تقتصر قراءة تجربة الزنايدي على تتبع تحولات أسلوبه الفني، بل تمتد إلى فهم علاقته بالذاكرة. فهو فنان ظل مشدوداً إلى طفولته في الأحياء العتيقة، لكنه لم يتوقف عند استعادتها صورة رومانسية، بل أعاد إنتاجها بصيغ تشكيلية متجددة. بذلك، صار عمله أشبه بجسر يربط بين ماضٍ شعبي متجذر وحاضر يتطلع إلى التغيير.

تظلّ أعمال علي الزنايدي أشبه بحوار مستمر بين اللون والضوء، وبين المشهد الشعبي وما يختزنه من دلالات، وبين النزعة الجمالية التي ترفع التجربة إلى مستوى أكثر تجريداً وتأملاً. وبهذا، يرسّخ مكانته باعتباره واحداً من أبرز الأصوات التشكيلية التي أعطت للمشهد التونسي الحديث خصوصيته وحضوره في المحافل العربية والدولية. ولعل معرضه الحالي يمثل فرصة حقيقية للتعرف إلى تطور هذه التجربة المهمة عبر خمسين عاماً، كما يتيح المعرض فرصة للتأمل في تاريخ كامل من التحولات التي عاشتها تونس خلال نصف قرن، حيث يزاوج صاحبه بين التوثيق الجمالي والانفتاح على مغامرة اللون.