رواية ألمانية تُبرز الجانب الإنساني لمحمد علي تجمع بين المرجعية التاريخية والخيال الفني

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من رواية «محمد علي» للكاتبة الألمانية لويز مولباخ، ترجمة: نسيب أفندي المشعلاني، وهي تتناول السيرة الذاتية والتاريخية لحاكم مصر الشهير المثير للجدل محمد علي باشا (1769 - 1849)، فهناك من يراه باني نهضة البلاد الحديثة، فيما يرى البعض الآخر أن تلك النهضة لم تكن لصالح المصريين وإنما تستهدف صنع مجد شخصي بهدف بسط سيطرته على مصر وتمكين أبنائه من بعده لحكمها.

لا تبدو المؤلفة مشغولة بهذا الجدل التاريخي، إنما جاء تركيزها الأساسي على محاول إبراز الجانب الإنساني لمحمد علي على مستويات عديدة كابن حزين ومتألم لفراق والدته، وصديق في غاية الوفاء لأصدقائه، وعاشق يذوب ولهاً وغراماً لمرأى حبيبته حين تَلوح على البعد. ورغم أنه عُرف بقسوته الشديدة في التخلص من أعدائه وعلى نحو دمويّ، فإنه يبدو هنا شخصاً هادئ الطباع، حَسَن النية، لا يريد سوى الخير للجميع، ولا تعرف شخصيته إلا الطابع الوديع المسالم.

تقع الرواية في 352 صفحة من القطع الكبير، ولا يظهر فيها جموع المصريين أو شكل الحياة في البلاد في النصف الأول من القرن التاسع عشر إلا على استحياء وبشكل عابر، كما أن المؤلفة لم تولِ اهتماماً بمعارك محمد علي الخارجية، حيث يدور معظم الأحداث ضمن مشاهد داخلية تقع المنازل والقصور.

صدرت الطبعة العربية من العمل لأول مرة عام 1907 وهي تعد في قائمة الأعمال الأولى لفن الرواية، من حيث الظهور في الثقافة العربية سواء في عالم التأليف أو الترجمة، فلم يكن الفن الروائي بمعناه الحديث قد نضج وأصبح محط أنظار القراء كما هو الآن، حيث سيطرت فنون الشعر والمسرح والغناء على الوجدان العام آنذاك. ومن هنا تكتسب هذه الرواية التاريخية قيمتها، بخاصة من حيث المضمون لأنها تعرض سيرة مؤسس مصر الحديثة.

وصاحبة الرواية المؤلفة الألمانية كلارا موندت، التي اختارت لويز مولباخ اسماً فنياً لها تطرح سيرة محمد علي بأسلوب سردي يجمع ما بين المرجعية التاريخية والخيال الفني، على نحو يبدو قريباً من بدايات نشأة فن الرواية في العالم العربي، حيث كان الاعتماد على استلهام التاريخ، كما هو الحال في أعمال جرجي زيدان، أو الترجمة التي قام بها رفاعة الطهطاوي، أو محاكاة السرد العربي القديم في بث الفضيلة كما كتب علي مبارك والمويلحي وزينب فواز.

عاشت لويز مولباخ بين عامي 1814 و1873، واشتهرت بتخصصها في الروايات التاريخية، ومن أبرز أعمالها: «الإمبراطورة جوزفين»، و«ابنة الإمبراطور»، و«ماري أنطوانيت وابنها»، و«هنري الثامن وبلاطه»، و«نابليون وملكة بروسيا».

ومن أجواء الرواية، نقرأ:

«وتمالك محمد علي نفسه فمسح دموعه ودخل إلى الغرفة الثانية حيث كانت زوجته عائدة وأولاده، فتبسَّم قائلاً:

- تعالوا يا بنيّ أُريكم عاصمة بلادي القاهرة أجمل مدن العالم. تعالوا!

فأخذ بيدَي بنيه ناسياً تلك الزوجة المسكينة وهي تنظر بحنوٍّ وقد ترقرفت دمعتان محرقتان على خديها عندما خرجوا وغابوا عن نظرها، وسار محمد علي بأولاده بين تلك الغرف التي كانوا يُعجبون بترتيبها والبذخ والترف الذي فيها، إلى أن أوصلهم إلى شرفة القصر وتمثلت أمام عيونهم مدينة القاهرة المتسعة يخترقها النيل متعرجاً كأنه بحر من الفضة النقية وإلى جانبه الآخر صحراء ذهبية في منتهاها أهرام الجيزة العظيمة، فصاح الأولاد بصوت واحد قائلين:

- آه... ما أجمل هذا المنظر وما أعظمه يا أبتاه!

فقال محمد علي:

- نعم إن مصر جميلة عظيمة يا بني، وكل ما تراه عيونكم الآن هو ملكي وتحت تصرفي وحكمي، وعسى أن تكونوا حكامه بعدي وتصبح أسرتي عظيمة ومجيدة تتوارث ذلك بعدي. نعم، وأقسم بالله ألا أتخلى عن عرشي هذا كما تخلى عنه سلفائي، ولا أتنازل عن هذه الأكمة المبنية عليها، قلعة القاهرة المنيعة. أقسم أن أجعل أسرتي تحكم مصر إلى آخر الزمان فيخلد التاريخ ذكري قائلاً إن محمد علي هو أول أمير حكم مصر وسلَّم ولايتها لأولاده ونسلهم من بعده، فَعِدُوني يا أولادي أنكم تعدلون وتتبعون مثالي متى صرتم حكاماً.

فقال الأولاد:

- إننا نقسم لك ونَعِدُك بذلك أبتاه.

نظر محمد علي إلى أولاده بسرور ثم رفع نظره إلى السماء وقال:

- رباه، قد سمعت هذا القسم. رباه قوِّني من فضلك العظيم لأوطِّد سعادة أسرتي. رباه قوِّ بنيَّ على القيام بوعدهم، وكُنْ أنت لي ولهم معيناً بجاه نبيك الكريم، وَهَبْنِي ألا أكون صنيعة ملك أو سلطان بل أن أبقى حراً مستقلاً ويستقل أولادي بعدي، فشدِّد اللهم يميني وألهمني الحكمة يا أرحم الراحمين».