فارس توجنين/الشهيد محمد تقي الله ولد الشيخ المامي ولد البخاري المهلهلي الكرعاني...

 

*** السيدة منت محمد لعلي***...

إعترف الجنرال الفرنسي هنري غورو فى مذكراته أنه لم يصادف طيلة خدمته العسكرية أعداد أكثر شجاعة من البيظان؛ فيقول بأنهم يقاتلون كوحوش كاسرة، لايعرفون الخوف ولا التراجع ، ويضيف: "لقد كان إحتلال بلادهم  أصعب المهام التي واجهتها فى حياتي، بل أقساها على الإطلاق"....

ن شهادة هنري كشهادة بقية زملائه من قادة الإحتلال تصف تماما حال كل أبطال المقاومة فى موريتانيا الذين أبوا إلا أن يظلوا صناع قرار هذه المرحلة وشجعانها..

ومن أمثلة هؤلاء الفارس والبطل المقدام المجاهد الذي تصدى للمستعمر  فقتل قادته، ما جعل المستعمر يعيد حساباته الحربية، ويغير من تكتيكاته، و ينظر فى سياسته الدفاعية  فى مايتعلق بمايعرف بمستعمرات أرض البيظان.

 أجل ذلكم هو ما أوصلهم إليه فتى الساحل الشجاع وفخر الوطن البطل المقدام الشهيد "محمد تقي الله ولد الشيخ المامي ولد البخاري المهلهلي الكرعاني" الملقب التقي، لأمه فاطمة منت اعل الحسن البعمرية الدليمية، ولاغرو فهو  المولود  لأسرة سيادة ودين وفروسية وحرب  ...حيث رباه ابوان ماجدان رسخا فى ذهنه ان الفرح بمولده لايضاهيه عندهم إلا الفرح بيوم إستشهاده فى سبيل الله.

كبر التقي وشب وهو يلاحظ أنه كلما نعى الناعي أحد إخوته،   يقوم والدهم المجاهد الكبير الشيخ المامي رفقة والدتهم   بلبس أجمل ثيابه ويكتحل ويولم ويأمر بقرع الطبول وإظهار الفرح  والسرور ..وظل على هذا الحال حتى إستشهاد آخر أولاده.

كان هذا النمط النادر من التربية الدينية والجهادية وتحميل النفس على الصبر، وإظهار السرور بقضاء الله وقدره، وتعويد النفس على السعي لما يرضي الله.

بيئة نادرة تربى فيها و ترعرع وشب فارس توجنين وبطلها بلا منازع الشهيد التقي بن المامي و بقية إخوته الشهداء فكان  الجهاد  طيلة حياته مطلبه الأول، و نيل الشهادة مبتغاه الثاني.

ولد  التقي رحمه الله سنة 1882م ودرس على الشيخ ماء العينين؛ إنخرط فى سلك الجهاد فخاض معارك عديدة ضد المستعمر ،فأثبت انه من قبيلة لاتهاب الموت ولاتعرف الخوف ولا التراجع فى الميدان...فهو من ارض البيظان من ابناء الساحل الشجعان الذين لايرضخون لغير الله، ويفتخرون بالموت في سبيله، ويشتهرون بالدفاع عنه. آمنوا به فحموه بدمائهم الطاهرة الزكية.

هؤلاء هم أخوالي والخمسة الذين نفتخر بهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، أجل  هؤلاء لمن لايعرفهم هم قبيلة الكرع منبع الكرم ،ومهد الشجاعة،  وأسياد الحرب، وفتيان البسالة و الإقدام.

كأي فرد من هذا المسمى قاتل التقي بشراسة كوحش كاسر فى معركة الخرفانية، فكان الأعداء يهابونه؛ كماشارك فى معركة الحفرة مقبلا غير مدبر،فكان فى كل مرة يبحث  عن الشهادة ، وفى كل معركة يزداد حقد المستعمر عليه، حتى جاءت وقعة بوخزامة فقاتل فيها بإستماتة أرهبت العدو وأخافته فشاع ذكره ، وأصبح رأسه المطلب الأهم للمستعر.

فى ليلة  السادس من سبتمبر سنة 1931 خرج التقي مع بقية رفاقه من المجاهدين قاصدين الحامية العسكرية التي ترابط فى توجنين، لكن لم يستطع التقي إنتظار بقية زملائه لأن هناك شيئا ما يحثه للإسراع نحو مصير طالما تاقت له النفس ، فكان ان إفترق  مع بقية المجاهدين وتوجه صوب المرتفع الذي يتواجد به المعسكر فوق تلة توجنين بآدرار...

وجد فى طريقه رجل يدعى أحمد من الطرشان من اهل المنطقة، فحمله معه على مطيته ليبين له الطريق  المختصر لموقع الحامية، وأثناء السير فى الظلام نحو وجهتهم كان هناك ضوء يضيئ لهم الطريق، فقال الطرشاني للكرعاني: هلا اطفأت هذا الضوء الذي ينير دربنا حتى لايرانا العدو؟ فقال له  المجاهد التقي: انا لا أحمل مصباحا لكن الإشعاع الذي تراه يضئ ربما يكون تفسيره إستشهاد أحدنا! فرد عليه انا لا ارغب بالموت الآن  بل أريد العودة لعائلتي وابنائي... فماكان من التقي إلا ان قال بلهفة التمني هو إذن انا ، فلطالما سعيت لها ولعل الله اخيرا يجيب دعائي فأنال الشهادة.

وقد ذكر رفيقه أحمد هذا ان التقي طوال الطريق كان  يلح عليه ..ويقول له اريد فقط منك أن توصلني للجهة التي يتحصن فيها الكفار فلا أريد قتل اي  مسلم...وقد عرف عنه تجنبه الدائم لقتل ابناء وطنه الذين يعملون لصالح المستعمر او من يعرفون محليا بكوميات.

خلال هذه المعركة الشهيرة نال التقي مبتغاه بعد أن كبد  العدو خسائر فادحة فى الأرواح حيث قتل ثلاثة منهم قبل أن ينضم إليه بقية رفاقه من المجاهدين ليشتبكوا جميعا مع العدو في ما بات يعرف بملحمة توجنين خالدة الذكر...

نظرا  لنتائجها غير العادية، والخسائر المعتبرة  للعدو، حيث تم قتل أربعة منهم، من بينهم قائدين في معركة واحدة من طرف مجاهد واحد هو الشهيد التقي الذي إستطاع بإذن من الله قتل ثلاثة منهم وهو حيا وقتل الرابع بعد عدة ساعات من إستشهاده!! فاطلق عليه رفاقه من المجاهدين الذين لم يقلوا عنه شأنا لقب افارس الذي يقتل العدو حيا، ويقتله أيضا وهو ميت، حيث روى من شهد معه المعركة أنه بعد أن قتل كلا من  الملازم بلانك، والرقيب اول أورديوني، والرقيب مارتيني وضع إصبعه على الزناد، وكانت الرصاصة جاهزة للإطلاق من فوهة بندقيته وهو يهم بقتل المزيد منهم  قبل أن يغدر به أحد كوميات  -نتحفظ على ذكر اسمه -وقتله .. فبقي التقي بعدها رحمه الله مستلق على الوضعيه التي أستشهد بها  وإصبعه  لازال على الزناد إنتهت المعركة  حينها  وتم ترك ساحة القتال على هذا الوضع حتى جاء الرقيب الأول دليون من الحامية المجاورة بعد أن وصله خبر المعركة وقرر الوقوف بنفسه لمعاينة الخسائر وتفقد الموتى...وكان هدفه الرئيسي الإطلاع على صحة خبر قتل التقي الفتى الذي لطالما  أرق نومهم كثيرا ..وكان يرافق  دليون أحد كوميات- نتحفظ  أيضا على  ذكر إسمه  - فتوجه هذا الأخير نحو جثمان  الشهيد  التقي بن المامي وبمجرد لمسه ليده ليحرر  منها البندقية إرتد عليه جناح التقي بقوة فتحطمت رقبة  الكومي.... وفى نفس الوقت  إنطلقت الرصاصة التي جهزها التقي قبل موته نحو  الرقيب الأول دليون فأردته قتيلا......

فى جو من الذهول  التام والصدمة الحقيقية لم يصدق جميع من كان هناك أن القائد دليون قد مات....

مات برصاصة  اطلقت من طرف شخص توفي منذ ساعات ...  فبدؤوا يتساءلون: هل يعقل أن "دليون" الذي قدم مسرعا لساحة المعركة، ولم يكن طرفا فيها إلا كشاهد فقط على ثبوت القتل ليزف د الخبر المفرح لقادته هاهو فى لحظة أصبح هو القتيل؟!!

إنقلبت الوقائع وكان ماتم إبلاغ قادة المستعمر به هو رسالة  من نوع آخر ، رسالة فعل لا قول، رسالة جهاد وإصرار تمت ترجمتها بلغة إلهية قادرة ،اذهلت العقول وشلت التفكير، فجاءت على شكل رصاصة قاتلة جهزها لهم التقي قبل   إستشهاده، وكانت هذه الرصاصة كأنها جاءت لتتكلم نيابة عنه  وتقول: "انا الشهيد التقي بن الشيخ المامي بن البخاري  المهلهلي الكرعاني، المجاهد الموريتاني قاتلك بإذن الله يا"دليون" حيا كنت او ميتا.... فردها  علي  إن  إستطعت.

رحم الله شهداء الوطن، وجعل الجنة مثواهم جميعا.

***السيدة منت محمد لعلي***