منتدى تحالف الحضارات... رسالة إنسانية خالدة

سعدتُ بالمشاركة هذا الأسبوع في أعمال الدورة الحادية عشرة لمنتدى الأمم المتحدة لتحالف الحضارات، في مدينة الرياض، عاصمة التحالف والعيش المشترك، بحضور الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش، والأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، والسيد ميغيل موراتينوس، الممثل السامي للتحالف والمبعوث الخاص للأمم المتحدة لمكافحة الإسلاموفوبيا، والعديد من القادة والمسؤولين ورجالات الفكر والدين وممثلين عن المنظمات الدولية والإقليمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والشباب والفنون والرياضة والإعلام، وكلهم يؤمنون بضرورة بناء الأسرة الإنسانية الواحدة.

ومع دخول المبادرة الأممية لتحالف الحضارات عقدها الثالث، كان المنتدى فرصة للاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس المبادرة ورسم خريطة طريق لمسارها المستقبلي في السعي لتحقيق السلام العالمي. وتطرقنا في هذا المنتدى لمشكلات تعاني منها البيئة الأمنية الدولية، خصوصاً أن سماتها الأربع: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض، هي سمات حقيقية تطبع أزمنتنا أكثر من أي وقت مضى، وتجعل الخبراء الاستراتيجيين في بعض الأحيان في حيرة من أمرهم عندما يريدون تشخيص الحاضر وتوقع المستقبل للتأثير فيه سلمياً وحضارياً...

شارك كرسي الأمم المتحدة الذي لي شرف ترؤسه في جلسات هذا اللقاء الدولي، وانطلقت في تدخلنا من بعض ما جاء في كلمة الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي، عندما تحدث عن الشباب قائلاً: «إن أفضل مَن يُعبّر عن الأمل هم شريحة الشباب، وهم قادة المستقبل، ورسل السلام، ولا يسعني في هذا السياق إلا أن أُعبر عن بالغ سروري بوجود هذه الأعداد الكبيرة من الشباب في هذه القاعة، كما أن هناك منتدى شبابياً ينعقد على هامش هذا المنتدى، وسوف يستضيف هذا المكان تخريج الدفعة الثامنة من برنامج تأهيل القيادات الشابة لمشروع (سلام) للتواصل الحضاري، وبناءً عليه يمكن القول إن هذا المنتدى لتحالف الأمم المتحدة للحضارات هو منتدى الشباب». وهذا الكلام صحيح، ويتماشى مع ما نقوم به في إطار كرسي الأمم المتحدة لتحالف الحضارات؛ حيث برمجنا فيه بمعية الأمم المتحدة مجموعة من التكوينات الجامعية المختصة في مجال تحالف الحضارات لصالح الشباب، بما في ذلك مسالك للماستر مختصة في مجال حل النزاعات الدولية، يدرس فيه طلبة من العديد من دول العالم، ويقوم بالتدريس فيه قضاة دوليون، وممثلون سامون لبعض الهيئات الدولية وجامعيون وخبراء ومختصون عالميون يؤمنون بقواعد العيش المشترك، كما أحدثنا مدرسة للدكتوراه يتابع فيها طلبة من العديد من الجنسيات يُعدّون الأطاريح في مجال تحالف الحضارات والحل السلمي للنزاعات، كما نقوم بعملية التكوين والاستشارة وتنظيم دورات تكوينية ومنتديات دولية، والدفع بشباب العالم إلى التنظير الإيجابي والتأثير على مستقبل العالم.

في كلمته الافتتاحية، شدد ميغيل موراتينوس على ضرورة أن تحظى جميع الثقافات والحضارات بصوت متساوٍ في تشكيل عالم يزداد تعقيداً. وحذّر موراتينوس من «عودة الكراهية»، وشدد على ضرورة اليقظة في مواجهة التمييز والانقسام. واستشهد بآية من القرآن الكريم من سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». كما جدد تأكيده على أن الإسلام دين سلام، وعلى ضرورة عدم التسامح مع الإسلاموفوبيا في أي دولة...

وهذا الكلام هو الذي جعلني أدعو إلى استعادة روح «حلف الفضول» التاريخي، وإحياء قيمه الإنسانية العظيمة، لتعزيز السلم في العالم، ونشر ثقافة التعايش، ونبذ العنف والكراهية، والسعي من أجل مصلحة الإنسان في كل مكان أو زمان، وتعزيز روح السلام المستدام في العالم. و«حلف الفضول» هو ذلك الذي عقده وجهاء قريش في الجاهلية لنصرة ضعفائهم، وامتدحه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قائلاً إنه لو أدركه لالتحق به. وحري بالمسلم أن يحذو حذوه في مد اليد لكل من يريد إقامة ذلك العهد المنشود.

هذا الحلف كان قد عقد في الجاهلية، ولم يكن مبنيّاً على أساس ديني ولا عرقي، بل التأم جميع رواده على مكارم الأخلاق والقيم النبيلة المشتركة بين بني الإنسان؛ ولذلك زكاه الإسلام وأشاد به، وهو موقف شرعي متجدد متى تجددت الحاجة إليه، فالدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على مقدمتين: أولاهما، الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، بسبب عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء، عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار. وثانيهما، القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة. إنها القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولاً تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.

د.عبد الحق عزوزي