"بيزنس الألم" يزدهر في إسرائيل بعد حرب غزة

تحول الألم النفسي الناتج عن حرب غزة إلى سوق جديد للأوجاع داخل إسرائيل. فبعد أن خلفت الحرب آلاف الجنود والضباط المصابين باضطرابات نفسية وصدمات عميقة، بدأت شركات التكنولوجيا الطبية، خصوصاً العاملة في مجال الصحة النفسية والذكاء الاصطناعي العلاجي، في حصد ثمار الأزمة. ووفقاً لتقارير نشرتها صحيفتا "ميديا لاين" الأميركية، و"يديعوت أحرونوت" العبرية، فقد شهدت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 طفرة في عدد الشركات الناشئة المتخصصة في تقنيات علاج الصدمات، في وقت تقدّر فيه وزارة الأمن الإسرائيلية أن أكثر من 31 ألف جندي يعانون من اضطرابات نفسية ناجمة عن الحرب. وبينما تتحدث الحكومة عن "إعادة تأهيل"، يرى مراقبون أن ما يحدث هو ولادة صناعة جديدة للألم تمزج بين التكنولوجيا، ورأس المال، والجنود المكسورين.

اقتصاد الصدمات النفسية

بحسب تقديرات هيئة الابتكار الإسرائيلية، فإن الطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية بعد حرب غزة فتح الباب أمام ما بات يعرف في الأوساط الاقتصادية باسم اقتصاد الصدمات النفسية، وهو قطاع سريع النمو يستثمر في علاج ما خلفته الحرب من جروح غير مرئية. وحسب وزارة الأمن الإسرائيلية، يقدر عدد المصابين بالأمراض النفسية بنحو 31 ألف جندي من أصل 82 ألف مصاب تلقوا علاجاً بعد الحرب، فيما أشارت التقديرات إلى أن نسبة 38% من الجنود المتأثرين نفسياً باتوا يطلبون دعماً علاجياً طويل الأمد، بينما تجاوز عدد من شُخّصوا باضطراب ما بعد الصدمة أربعة آلاف جندي حتى أكتوبر الجاري.

وأوضحت إنبار بلوم، من هيئة الابتكار الإسرائيلية، أن شركات تكنولوجيا الصحة النفسية "تجد في إسرائيل مختبراً حياً لتجربة حلولها، بسبب العدد الهائل من المصابين بالصدمات"، مشيرة إلى أن العديد من الشركات المحلية والدولية بدأت اختبار منتجاتها في المراكز الطبية الإسرائيلية قبل طرحها في الأسواق العالمية. وفيما تعتبر الحكومة هذا التحول "ضرورة إنسانية"، يراه محللون، وفقاً لـ"ميديا لاين"، فرصة تجارية غير مسبوقة للشركات التي طورت حلولاً رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل المشاعر وقياس التوتر العصبي. وتقدر الهيئة أن نحو 30% من استثماراتها في الرعاية الصحية أصبحت مخصصة لتقنيات الصحة النفسية، ما يعكس تحول المعاناة الفردية إلى قطاع استثماري مزدهر يدر ملايين الدولارات، ويعيد تعريف العلاقة بين الحرب والسوق في إسرائيل.

Image removed.Image removed.

شركات ناشئة تستثمر الصدمة

ومن بين الشركات الناشئة البارزة GrayMatters Health ومقرها حيفا، التي تعمل على تطوير أنظمة لمراقبة المؤشرات العصبية، وشركة Mentally التي توظف الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج، وتختبر حالياً في مركز شيبا الطبي وعدة مراكز للمرونة النفسية في أنحاء البلاد. وقالت بلوم إن إسرائيل تمثل "بيئة مثالية لتطوير تقنيات الرعاية النفسية"، موضحة أن نحو 30% من استثمارات الهيئة الحكومية مخصصة لقطاع الرعاية الصحية، منها حصة متزايدة للصحة العقلية تحديداً. وأكدت هيئة الابتكار أن الطلب المتنامي على العلاج النفسي، إلى جانب نقص البنية التحتية العلاجية، خلق فرصة لإعادة هيكلة منظومة الرعاية، عبر حلول رقمية ونماذج جديدة للعلاج.

وفي هذا السياق، أطلقت الهيئة بالتعاون مع وزارة الصحة صندوقاً خاصاً لتوسيع دمج التكنولوجيا في الخدمات النفسية العامة، ودعم الشركات الناشئة بالتجارب التطبيقية في المستشفيات والمراكز المتخصصة. وبحسب بلوم، ارتفعت الطلبات المقدمة لبرامج الابتكار بنسبة 60% خلال الأشهر الأخيرة، في حين ارتفع عدد الشركات التي تقدم مقترحات لمشروعات الصحة النفسية ضمن برنامج "هورايزون أوروبا" الأوروبي. وأضافت أن "الكثير من الشركات الجديدة وُلدت مباشرة من رحم الحرب، خصوصاً في مجالات علاج الصدمات والاضطرابات ما بعد الكرب (PTSD)". وتهدف برامج تسريع الأعمال الحكومية إلى دعم الشركات الصغيرة، وتحويل النماذج التجريبية إلى منتجات جاهزة للتطبيق التجاري والطبي.

صدمة جماعية 

من جانبها، قالت جيلا تولوب، المديرة التنفيذية لجمعية العمل الجماعي من أجل الصمود في إسرائيل (ICAR)، إن الخبراء يتوقعون زيادة حالات الانتحار بين الجنود بنسبة تصل إلى 30%، في ظل تصاعد الضغوط النفسية الناجمة عن العمليات العسكرية منذ 7 أكتوبر 2023. وأوضحت وزارة الدفاع أن أكثر من نصف الجنود المصابين (56%) يعانون من اضطرابات نفسية، فيما صُنف نحو أربعة آلاف جندي رسمياً بأنهم مصابون باضطراب ما بعد الصدمة، ويتوقع أن يتضاعف العدد بحلول عام 2028، ليصل إلى 100 ألف جندي يعانون من إصابات نفسية مزمنة.

Image removed.Image removed.

وفي سياق متصل، كشفت شركة تيفا للصناعات الدوائية، في دراسة أجرتها بالتعاون مع شركة سابيو للأبحاث، أن أكثر من 70% من الإسرائيليين -عسكريين ومدنيين- يطلبون المساعدة النفسية المهنية منذ الحرب، فيما أقرّ 85% منهم بأنهم يعانون من قلق وخوف وجودي، و75% من اضطرابات في النوم والتركيز. كما أظهر الاستطلاع أن سبعة من كل عشرة يواجهون صعوبات في الحصول على رعاية نفسية مناسبة، بسبب نقص الكوادر الطبية وشركات التكنولوجيا المتخصصة، ما جعل السوق الإسرائيلي بيئة استثمارية مغرية لشركات الصحة الرقمية والذكاء الاصطناعي في العلاج النفسي.

ضغط على النظام الصحي

وأشارت التقارير إلى أن عدد المختصين النفسيين في إسرائيل تضاعف منذ حرب غزة، لكن نحو نصفهم اضطروا لرفض مرضى جدد بسبب ضغط العمل. وأفاد 97% من المعالجين النفسيين بأنهم يواجهون تحديات غير مسبوقة في عملهم، بينما أقر 88% منهم بتدهور صحتهم النفسية الشخصية، نتيجة التعامل اليومي مع مرضى الصدمات. ويرى محللون أن الطفرة الحالية في بيزنس تكنولوجيا الصحة النفسية تمثل "تحولاً هيكلياً في اقتصاد ما بعد الحرب"، إذ تتعامل إسرائيل مع أزمة نفسية جماعية تحولت إلى فرصة استثمارية واسعة. ومع ضخ التمويل الحكومي وتوسّع الشركات الناشئة، يُتوقع أن تصبح إسرائيل خلال سنوات قليلة من أكبر مراكز تطوير تقنيات العلاج النفسي في العالم.