صناعة المحتوى بين الإبهار والإدمان: رحلة الدوبامين من المتعة إلى التبعية(مقال رأي)

مقال: الشيخ اكار عبد اللطيف 

في زمنٍ لم تعد فيه الشهرة ثمرةَ جهدٍ معرفي أو إبداعٍ أصيل، بل نتيجةَ خوارزمياتٍ سريعة وشاشاتٍ لا تنام، ظهر كائنٌ جديد في الفضاء العام يُسمّى «المؤثّر». شخصٌ تلتف حوله
الأعين، وتتعلّق به القلوب، لا لأنه أعلم أو أصدق، بل لأنه حاضرٌ دومًا، قريبٌ من الإبهار، بعيدٌ عن المساءلة. وبين متابعٍ مبهور، وأسرةٍ غافلة، ودولةٍ متأخرة في التقنين، يتشكّل وعيٌ جديد قد يكون أخطر مما نتصوّر.
هذا المقال محاولة لفهم ظاهرة المؤثّر والمتابع والمحتوى، لا من زاوية تقنية، بل من زاوية أخلاقية وإنسانية، حيث تصبح الكلمة مسؤولية، والصورة أمانة، والتأثير امتحانًا عسيرًا.
فمن هو المؤثر ومن هو المتابع وماهو المحتوى وكيف يقع التأثير ؟  واين المهرب النافع ؟

أولا: المؤثر Influencer 
هو شخص حباه الله بالشهرة والإعجاب والقبول عند كثير من الناس، مع أن أغلب من يُسمَّون «معجبين» قد لا يكونون كذلك حقيقة. ولذلك، وتجنّبًا لمشادة الاصطلاح، دعونا نسمّيه باسمه الآخر: متابع (Follower).
وبدل «صانع محتوى» نقول مؤثّر (Influencer)، لأن كثيرًا من المؤثرين لا يصنعون محتوى بالمعنى الدقيق، وإنما يقدّمون منتجات جاهزة أو أفكارًا معلبة.

وقد كان هناك دائمًا مؤثرون وملهمون عبر العصور؛ فالسحرة مؤثرون في زمانهم، ولهم أتباع من العوام ومن علية القوم، والشعراء مؤثرون ولهم مجالسهم، وكذلك الفلاسفة والمفكرون ورجال الدين… إلخ.

وعلى أية حال، فإن المؤثّر شخص محوري ذو طابع عام، أصبح محط أنظار الجميع في عصر تتحكّم فيه الشاشة في أفئدة الناس، تقلّبها ذات اليمين وذات الشمال. وهي فرصة كبرى لإصلاح المجتمع واستشعار دور القدوة في السلوك والأفعال والأقوال، خاصة أن أغلب متابعيه – المهوسين به – من جيل الآيباد، أو ما يُسمّى بـ«الجيل القلق»، جيل الشاشات، الذين يرون في حياته فردوسًا موعودًا ورفاهًا بعيدًا عن واقع الحياة الذي يفرض الجدية والصرامة.

إن حياة المؤثّر الوردية أصبحت هدفًا وطموحًا للشباب، وهي في الغالب هدف صعب المنال، ما يسبّب حالات من الاكتئاب والتمرد والإحباط، بل وقد يؤدي – في بعض الدول – إلى حالات انتحار، والعياذ بالله.

إن شخص المؤثّر، وهو محط أنظار الجميع، ينبغي أن يبتعد عن التفاهة والسقوط في القول أو العمل، وألا يقع في شِراك العُجب والكبر والتعالي، وليعلم أنه كلما تواضع للناس أحبّوه، وأن كل أقواله وأفعاله محفوظة ومسجّلة في هواتف الملايين، وهو عن كل ذلك مسؤول يومًا ما، وباقٍ خلفه أثرًا خالدًا:

> فالخطُّ يبقى زمانًا بعدَ كاتبه
وصاحبُ الخطِّ تحتَ الترابِ مدفونُ


ثانيا: المتابع (Follower)

هو المتلقّي، وغالبًا ما يكون من الفئة العمرية ما بين 15 و50 سنة، وهي فئة تضم مراحل عمرية متعددة، من المراهقة إلى ما بعد الشباب. وتشكل هذه الفئة ما يقارب 70% من تعداد سكان موريتانيا، ونحو 40% في البلدان العربية الأخرى.

ومن بين هذه الأجيال، أكثرها ارتباطًا بالتكنولوجيا الرقمية، وأصعبها ضبطًا، جيلا Z وAlpha.
فجيل «Z» – وهو الأكبر – من مواليد أواخر التسعينات إلى 2012، أي ما بين 13 و27 سنة، ولا يزال مرتبطًا بمقاعد الدراسة، ويفترض به الخضوع لرقابة الأسرة.
أما جيل «Alpha» فمن مواليد 2013 إلى 2024، ويفترض أنهم تحت الوصاية المباشرة للوالدين والمدرسة والبيت، لكنهم – في كثير من البيوت – يجلسون بين يدي ماما TV، وفي حضرة بابا Phone وeye"Pad"، حيث لا يوجد في البيت سوى عاملٍ وعاملةٍ يبحثان عن إرضاء هؤلاء الأطفال المدللين، تحت طائلة الفصل من الخدمة.

وليس ذلك بسبب اليتم أو خراب البيوت، وإنما بسبب تخلّي القائمين عليها عن تحمّل المسؤولية الإنسانية والتاريخية الملقاة على عواتقهم في تنظيم البيوت وإعمار الأرض.

> إنّ اليتيمَ هو الذي تُلقى لهُ
أمٌّ تخلّتْ أو أبا مشغولا

ليس اليتيمُ من انتهى أبواهُ من
همِّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلُ


ثالثا: المحتوى (The Content)

وهو مادة قد تكون علمية في مجالات كالرياضة، والثقافة، والصحة، والتعليم أحيانًا، أو مادة ترفيهية، أو سلعة ترويجية  – وهذا هو الغالب.
فالمؤثّر يسوّق نفسه وأفكاره ومنتجاته، والمشاهد متابع ومستهلك.

وأكثر ما تتابعه العامة مقاطع ترفيهية مصحوبة بضحكات مستفزة، أو منتجات تتسلل إلى حياتهم من حيث لا يشعرون، عبر عرض ذكيّ لجزء من حياة المؤثّر، يطرح خلاله المنتج أو الفكرة باحتراف، فيتابعها المسكين، ليجد نفسه لاحقًا يدفع ثمن المنتج أو يدافع عن الفكرة. وهنا تكمن خطورة هذه الوسيلة الجديدة في التسويق: سرعة الانتشار، وسهولة النفاذ، وضعف المناعة.

رابعا: المسؤولية والواجب

وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي – بأدواتها ومنصاتها المختلفة – شرًّا لا بد منه، وطفرةً جاءت فجأة فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإن تقنينها وتنظيمها والتعامل معها كأزمة أمر لا مناص منه.

وهنا تتحدد الجهات المسؤولة:

الدولة: بسنّ القوانين، وتحديد الأعمار، وضبط الأوقات، ومراقبة المحتوى.

الأسرة: بمتابعة الأبناء، وتجسيد القدوة الحسنة قولًا وفعلاً، بدءًا بالنفس.

رجال الوعظ والعلم والثقافة: بتنبيه الناس إلى هذا الخطر الداهم.

منظمات المجتمع المدني: بتحريك النقاش، وكشف المخاطر، وتوعية الرأي العام بأهمية تنظيم الوقت وحماية القيم.

وفي الأخير فإن أولادنا أمانة، لا يتيهون صدفة، ولا يضيعون فجأة،
وإنما يُسلَّمون قليلًا قليلًا حين نتخلّى،
ونُحاسَب كثيرًا كثيرًا حين نغفل.

قال تعالى:

> ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾
[التحريم: 6]

وقال تعالى:

> ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾
[الصافات: 24

صدق الله العظيم