د. معن علي المقابلة
مثّلت القضية الفلسطينية على امتداد قرن كامل محوراً مركزياً في الوعي العربي، لكنها في الوقت نفسه تحولت إلى عامل استنزاف للأنظمة السياسية والنخب، سواء كانت هذه النخب في موقع الموالاة أو المعارضة، بوعي أو من دونه.
فقد أُفرغت القضية من كونها تحدياً وجودياً يفترض أن يوحّد العرب ويحفّزهم على بناء مشروع نهضوي، لتصبح أداة بيد الأنظمة لتبرير استمرار سلطتها وإضفاء شرعية رمزية عليها. وفي السياق ذاته، لم تكن النخب أكثر قدرة على تجاوز هذا التوظيف، بل انخرطت في علاقة يمكن وصفها بـ”تبادل الأدوار” مع الأنظمة، حيث ارتضى الطرفان بواقع يخدم مصالحهما، فيما بقي الشارع مجرد متلقٍ لهذا المشهد.
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، ورغم الجدل المستمر حول دور العامل الخارجي في تحريكها، إلا أن جذورها الحقيقية كانت داخلية؛ إذ تراكم الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب فشل الدولة الوطنية في بناء مؤسسات حديثة وفاعلة.
وإذا كان الخارج قد استثمر في هذه التناقضات، فإن الانفجار الاجتماعي والسياسي كان نتيجة طبيعية لهذا الفشل البنيوي. ومع ذلك، فإن مآلات الربيع العربي لم تحقق آمال الشعوب، إذ سقطت بعض الأنظمة لكن الثمن كان باهظاً: فوضى، دماء، ودمار للبنى التحتية.
والأسوأ أن الاستبداد أُعيد إنتاجه بأشكال جديدة، ليصدق القول الشعبي: “كأنك يا أبا زيد ما غزيت”. في هذا السياق، كشفت النخب عن عجز مضاعف، إذ لم تنجح في التقاط اللحظة التاريخية ولا في تمثيل صوت الشارع أو فهم تحوّلاته العميقة.
وفي ضوء ذلك، يمكن النظر إلى ما يحدث اليوم في المغرب باعتباره نسخة محدثة من الربيع العربي الذي انطلق من تونس. فبينما فجّر حدث البوعزيزي الحراك التونسي، فإن الحراك المغربي لا يرتكز إلى شرارة واحدة، بل إلى تراكمات متراكبة من الإحباط والخيبة، خصوصاً لدى جيل الشباب المعروف اصطلاحاً بـ Gen Z 212، أي مواليد التسعينيات. هذا الجيل الذي نشأ في الفضاء الرقمي عبر منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”، بات يعبّر عن قطيعة بين طموحاته الكبيرة وواقع سياسي واقتصادي واجتماعي مأزوم.
ففي الوقت الذي يشهد فيه الشباب تدهوراً في قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية، يرون الدولة تنفق مئات الملايين على استضافة كأس العالم، في مشهد يعكس ـ في نظرهم ـ انفصاماً بين صورة رسمية تسعى لتلميع النظام خارجياً وواقع داخلي تَمثَّل في كوارث مثل وفاة ثماني نساء حوامل في مستشفى الحسن الثاني بأغادير.
تنبع خطورة هذه التحولات من كونها صادرة عن فئة شبابية غير مؤطرة سياسياً ولا مرتبطة بأحزاب أو أيديولوجيات، ما يجعل تحركاتها عفوية، غير متوقعة، ومرتبطة بإحساس عميق بالاغتراب داخل مجتمعاتها.
ومن هنا فإن ما نشهده في المغرب قد لا يكون استثناءً، بل مرآة لاحتمالات مماثلة في أكثر من بلد عربي، طالما أن الظروف البنيوية متشابهة، بل متطابقة في كثير من جوانبها. تظهر القراءة التحليلية أن المجتمعات العربية عالقة بين استنزاف القضايا الكبرى مثل القضية الفلسطينية، وإعادة إنتاج الاستبداد بعد الربيع العربي، وفشل الأنظمة والنخب في إدراك التحولات العميقة لدى الشباب. ويبدو أن المستقبل العربي مرهون بقدرة هذه المجتمعات على تحويل هذا الوعي الجديد، خصوصاً لدى جيل التسعينيات، إلى مسار إصلاحي أو تغييري يستجيب لتطلعات الناس بدل أن يبقى انفجاراً دورياً غير منتظم.
ناشط وباحث سياسي/ الأردن