من خطة مارشال إلى غزة.. مصر وإعادة تعريف دبلوماسية الإعمار

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وصعدت واشنطن كقوى بارزة في العالم الجديد، اعتمدن نهجا قائما على حشد القوى الأوروبية خلفها، لتنصب نفسها كقائد لـ"المعسكر الغربي"، حيث تجلت الخطوة الأولي في تلك العملية في إعادة إعمار الدول التي دمرت الحروب، في إطار ما يسمى بـ"خطة مارشال"، وهو النهج الذي ساهم في صعود اقتصادي كبير لدول القارة العجوز، ضمن لها حد كبيرا من الاستقرار، مقابل خفوت سياسي وراء القيادة الأمريكية، والتي باتت الحاكم الفعلي لتلك الرقعة الجغرافية، في إطار المواقف والسياسات، والإجراءات التي تتخذها، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، على مر التاريخ، عكست تطابقا في الرؤى بين أوروبا والولايات المتحدة.

إعادة الإعمار، في المشهد السابق، لم يكن مرتبطا بأبعاد إنسانية، بقدر ما ارتبط بنفوذ القوى الساعية للهيمنة، فالسيطرة كانت الأولوية القصوى لواشنطن، بينما كان البناء وسيلة، لتحقيق هذا الهدف، وهو الأمر الذي يختلف جذريا في اللحظة الراهنة، عند الحديث عن إعادة إعمار غزة، باعتباره الأولوية القصوى للدولة المصرية، في إطار ليس فقط إنساني، في ظل تقديم الدعم لسكان القطاع، وإنما أيضا يدور حول نهج أخلاقي، يتجلى في الدفاع عن القضية، والنأي بها عن مخططات التهجير، والتي تهدف بالأساس إلى تصفيتها، وهو ما بدا في الدعوات المشبوهة التي أطلقها الاحتلال خلال العدوان الذي دام لعامين متواصلين، ناهيك عن إطار ثالث يتجلى في توسيع دائرة التنمية، لتمتد إلى أكثر مناطق الإقليم معاناة، بحيث تدور في نفس الآلة الجمعية التي تسعى نحو تحقيق الاستدامة.

فبالمقارنة بين "مارشال" وغزة، نجد أن ثمة اختلافات جذرية، رغم وحدة الهدف الذي جمعهما، وهو إعادة الإعمار، تتجلى في أحد مسارتها في أن الخطة الأمريكية في الأربعينات من القرن الماضي، انطلقت من نقطة نهاية الصراع، عندما انتصر الحلفاء على المحور، لتكريس نتائج الحرب التي أعلنت ميلاد قوى دولية جديدة، يمكنها أن تحل محل القوى الأوروبية ذات الهيمنة الاستعمارية، بينما انطلقت الرؤية المصرية نحو القطاع، منذ قبل وقف إطلاق النار، عندما أطلقت خطتها خلال القمة العربية الاستثنائية، والتي عقدت في العاصمة الإدارية الجديدة، في مارس الماضي (خلال هدنة مؤقتة)، بينما تتواصل بعدما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته في هذا الإطار، قبل انتهاء الصراع المركزي، والوصول إلى مفاوضات الحل النهائي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بناء على مرجعية الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما يمثل أولوية قصوى لدى الدبلوماسية المصرية والرؤية الإقليمية الجمعية.

اختلاف آخر، يتجلى في كون الرؤية المصرية لإعادة الإعمار، ليست فردية، فعندما أعلنت خطتها، حرصت على تمريرها عربيا، بينما رحبت برؤى القوى الدولية الأخرى، لتعمل جنبا إلى جنب مع خطتها، وهو ما بدا في الترحيب الكبير بخطة الرئيس ترامب، والحرص على وجوده ليكون راعيا لها بالشراكة مع مصر والقوى الأخرى، خلال قمة شرم الشيخ، وهو ما يعكس أن الهيمنة لم تكن الهدف من وراء التحرك المصري، وإنما الاستقرار الحقيقي، الذي يؤدي إلى التحرر من كافة أشكال القيود المفروض على سكان غزة، في ظل محاولات مضنية لإجبارهم على ترك أراضيهم.

إعادة الإعمار في الرؤية المصرية يحمل ثلاثة مسارات متوازية، أولها أنه أحد أدوات إنهاء الحرب في غزة، عبر خطة متكاملة، ساهمت بصورة كبيرة في صياغة الرؤية الأمريكية، وهو ما يبدو في التوافق الكبير بينها وبين الخطة التي أطلقها الرئيس ترامب، بينما تمثل استحداث أداة جديدة للمقاومة، تقوم على الإعمار والبناء، تحظى بشرعية دولية كبيرة، خاصة بعد ما آلت إليه قمة شرم الشيخ الأخيرة، والتي حظت بزخم دولي كبير، في حين أنها في مسار ثالث تقدم خدمة جليلة للقضية برمتها، في ظل تعزيز تلك المنطقة الهشة، في جغرافية الصراع، طالما استغلها الاحتلال لتقويض الحق الفلسطيني، وتصفية قضية، عبر حالة تنموية تساهم في تثبيت السكان على أراضيهم، في مواجهة محاولات تهجيرهم سواء قسرا أو طواعية.

فمنذ اندلاع العدوان على غزة، حافظ الخطاب المصري على تركيزه الثابت تجاه القضية الفلسطينية بوصفها الإطار الأشمل، رافضا بصورة قاطعة كل دعوات التهجير أو الفصل الجغرافي التي استهدفت تفكيكها، رغم محاولات الاحتلال لنقل القطاع إلى مركز الاهتمام الدولي ومع ذلك، برزت غزة، في الخطاب المصري بوصفها مركز الفعل الميداني فيما يتعلق بوقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية إبان الحرب، وزاد الحديث عنها في ظل خطة إعادة الإعمار التي طرحتها القاهرة، ليس فقط لأنها المنطقة الأكثر تضررا، كما كان الحال في التجربة الأوروبية عقب "خطة مارشال"، بل لأنها تمثل النقطة الأضعف في الجغرافيا الفلسطينية، والتي يسعى الاحتلال إلى استغلال هشاشتها لإفراغ القضية من مضمونها.

ومن ثم، جاءت الرؤية المصرية لتبني حياة جديدة في القطاع، توفر فيها فرص العمل والمساكن والخدمات، ضمن نهج عملي يرسخ صمود السكان في مواجهة الاحتلال، والأهم من ذلك إعادة تعريف مفهوم المقاومة عبر البناء والتنمية، لتكون بديلا عن النهج التقليدي، والذي أسفر في واقع الأمر عن آلاف الضحايا بين شهداء وجرحى ومبتورين، وفي النطاق الأوسع تمثل هذه الرؤية مشروعا يتجاوز حدود غزة، نحو إرساء بنية أساسية إقليمية متكاملة، قوامها التنمية والاستدامة، بوصفهما ركيزتين لتحقيق الاستقرار الإقليمي الشامل.

وهنا يمكننا القول بأن رؤية مصر فيما يتعلق بمسألة إعادة إعمار غزة، لا تقوم على الهيمنة أو السيطرة، وإنما حملت في طياتها ما يمكننا اعتباره "نزاهة دبلوماسية"، من شأنها خدمة القضية باعتبارها الأولوية القصوى، وتعزيز القطاع وتثبيت سكانه، مع العمل على تغيير مفهوم المقاومة، من الاعتماد المطلق على السلاح، والذي يترتب عليه أرواح آلاف البشر من الأبرياء، نحو الاعتماد على أدوات أخرى، من شأنها فرض الواقع والانتصار للحق الفلسطيني، في حين أنها في الوقت نفسه تمثل تعزيزا للإقليم برمته، عبر تعزيز الاستدامة، لتتحول من مجرد هدف تنموي فردي لدى كل دولة إلى عمل إقليمي جمعي يحقق مصالح الجميع.