في خضم هذا الجدل الفلسفي المتوارث حول علاقة الحضارة بالقيم، يتبدى سؤال عميق: هل حقاً سقطت القيم مع صعود الحضارة؟ إن الإجابة لا تقف عند حدود الإقرار أو النفي، بل تنفتح على مسار تأملي يضع الوعي البشري أمام مأزق مركب. فقد رأى نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت” أن انهيار اليقينيات القديمة أمر محتوم، وأن عبارة “موت الإله” لم يكن سوى إعلان لانتهاء مرحلة من المعنى الجاهز الذي كانت تغذيه الأديان والأعراف التقليدية، داعياً إلى بزوغ “الإنسان المتفوق” الذي يصنع قيمه بيديه كما ينحت الفنان تمثالاً من الصخر. غير أن ما ظهر لاحقاً في القرن العشرين لم يكن ميلاد الإنسان الخالق للقيم، بل الإنسان الممزق بين إرادات القوة ومصالح الأهواء، حتى تحولت الأخلاق إلى أدوات في يد المهيمن، فاقدة طابعها الكوني. وهنا يتضح أن “الحرية” التي بشّر بها نيتشه لم تُترجم إلى انعتاق الإنسان من القيود، بقدر ما تحولت إلى ذريعة لهيمنة جديدة، كما فعلت النازية حين اتخذت من زرادشت إنجيلاً لها، محرفة مفهوم “الإنسان الأعلى” إلى تبرير عنصري يكرس استعباد الآخرين.
لكن التاريخ لم يتوقف عند هذا المآل المأساوي. فالحرب العالمية الثانية بكل فظائعها دفعت البشرية إلى البحث عن منظومة قيمية بديلة، فتجسد ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي محاولات الأمم المتحدة ترسيخ مرجعية أخلاقية مشتركة تمنع تكرار الكارثة. غير أن هذه القيم ذاتها وقعت في فخ التوظيف السياسي والانتقائية، فتحولت إلى شعارات براقة تُستخدم لتبرير التدخل والهيمنة، وصارت أداة من أدوات الصراع على النفوذ. فالازدواجية التي يمارسها الغرب، وهو يرفع رايات العدالة والحرية، تكشف عن عطب أخلاقي عميق؛ إذ يبكي على مذابح الماضي في خطاباته الرسمية، بينما يمد المعتدين بالسلاح في حاضره السياسي، ويشيد بكرامة الإنسان في المؤتمرات، في الوقت الذي يغض فيه الطرف عن حصار وتجويع شعوب بأكملها. وما أشبه هذا بما وصفه مكيافيلي حين رأى أن السياسة لا تُدار إلا بمنطق القوة، وأن الدين المسيحي في عصره والقيم ليست إلا أقنعة لحشد الجماهير. وهكذا غدت مقولة “الغاية تبرر الوسيلة” حقيقة خفية في العلاقات الدولية، ولو لبست أثواباً من الفضيلة الزائفة.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن القيم سقطت تماماً، بل الأصح أنها تحولت وتبدلت. فمن جهة، ظهرت قيم جديدة مثل حقوق الإنسان، حرية التعبير، والمساواة، وهي مكتسبات لا يمكن إنكار أثرها في مسيرة البشرية. ومن جهة أخرى، صارت هذه القيم نفسها عرضة للاستغلال والنفاق، تتحكم بها المصالح أكثر مما يستند إليها العدل. وفي مقابل هذا الاضطراب، تقدم الرؤية الإسلامية الخالدة منظوراً مغايراً، يرى الحضارة امتداداً للأخلاق المنبثقة من الإيمان، ويجعل القيم شرطاً لدوام الحضارات وازدهارها. فالحضارة التي تفقد أساسها القيمي مصيرها الأفول، وإن علا شأنها مادياً، لأن المادة بلا روح لا تلد سوى خواء سرعان ما يتبدد أمام صدمات التاريخ.
إن أزمة القيم في عصرنا تكمن في الفصام بين القول والفعل، بين الشعارات المرفوعة والممارسات الواقعية. فالحضارة الحقيقية لا تُقاس بوفرة الإنتاج أو ضخامة العمران وحدهما، بل بقدرتها على أن تجعل من القوة أداة للعدل، ومن التقدم وسيلة للرقي الأخلاقي. لذلك فإن السؤال الأعمق ليس: هل سقطت القيم؟ بل: أي قيم هي التي تهيمن اليوم على العالم؟ وهل نمتلك الشجاعة لإعادة بناء منظومة أخلاقية صادقة تُترجم إلى مواقف حية، لا إلى خطب منمقة؟ فالقيم لا تموت إلا حين تُفرغ من مضمونها، ولا تنهض من جديد إلا حين تتجسد في السلوك، لتصبح الحضارة عندئذٍ مرآة للإنسانية لا أداة لاستغلالها.