15 أكتوبر , 202512:21 ص
لا يحتاج ذو البصيرة الثاقبة ليعمل فهمه السليم حتى يدرك أن استقلالية المؤسسات لا تُثبت بالتصريحات الصحفية، بل تُبرهن بالأفعال لا الأقوال. فحين يخرج رئيسُ محكمة الحسابات ليُؤكّد أن هيئته “لا تخضع لأي سلطة سياسية”، ففي ذلك اعترافٌ ضمنيٌّ بوجاهة سؤال الخضوع، حيث يقرّر المنطق الأرسطي أن “المحل لايوصف بالشيء إلا إذا كان قابلاً لضده”، فالرأي العام الموريتاني لم يَعُد يَرى في المحكمة مرجعًا محايدًا وإنما جزءًا من جهاز الدولة التنفيذي، يلتحف عباءة القضاء ويُمسك ميزانها الرمزيٍّ، غير أنه لا يُستخدم – كما يبدو- إلا لتزيين الواجهة.
الاستقلال المؤسسي ليس بالنصوص، بل في الممارسة.
فلو لم “تسمح المحكمة بأي تدخل”، حسب قول الرئيس حميدة، لما تأخّر نشر تقاريرها السابقة سنواتٍ عدة، ولا حُجِبت منها فصولٌ بدعوى “المراجعة التقنية”، ولما كان رئيسُها نفسه قد عُيّن بمرسومٍ سياسيٍّ صادرٍ من رأس السلطة التي يُفترض أن يراقبها.. وكيف يُراقِب المعيَّنُ المعيِّن؟!.. وكيف تكتمل دائرةُ الشفافية في بنيةٍ لا تزال خيوطها مرتبطةً بالقرار التنفيذي؟
*****
في اسبانيا يُنتخب رئيس محكمة الحسابات تسع سنوات غير قابلة للتجديد (حيث للسعي لمأمورية ثانية إكراهاتها) وذلك، من بين أعضاء المحكمة الاثني عشر، بعد أن يختار البرلمان بغرفتيه (النواب والشيوخ) أعضاءها بأغلبية ثلاثة أخماس.
و في أمريكا يتم تعيين المراقب العام (Comptroller General) من قبل رئيس الجمهورية، بعد ترشيح لجنة من الكونغرس وموافقة مجلس الشيوخ. لمدة 15 سنة، لا يمكن عزله فيها إلا بقرار من الكونغرس.
أما كندا فيتبع فيها مكتب المراجع العام Office of the Auditor General للبرلمان لا الحكومة، ويتم تعيينه من قبل الحاكم العام (باسم الملك)، بناءً على توصية البرلمان، لعشر سنوات غير قابلة للتمديد.
إن أوجه قصور النموذج الموريتاني في سلطة تنفيذية تحتكر التعيين، ما يخلق شبهة تضارب مصالح، وغياب مشاركة برلمان، يفترض أنه عين الرقابة والمساءلة الباصرة، و في عدم تحديد فترة الولاية، ليبقى رئيسها في تبعية سياسية غير مباشرة للسلطة المعيّنة، وفي ضعف الضمانات القانونية للعزل و الإقالة، و في ميزانية غير مستقلة، بل تدرج ضمن نفقات الرئاسة،
و أعتقد أنه لجبر كسر هذا القصور، الذي يهيض جناح محكمة الحسابات، بعد نتف قوادمها، ينبغي اقتراح لجنة وطنية مستقلة، مؤلفة من:
• رئيس الجمعية الوطنية
• رئيس المجلس الدستوري
• رئيس المحكمة العليا
• ممثل عن منظمات المجتمع المدني
• عميد كلية القانون.. ومن على شاكلتهم..
على أن تُقدم هذه اللجنة لائحة بثلاثة أسماء، يُنتخب من بينها رئيس لمحكمة الحسابات بأغلبية ثلثي البرلمان.. لـ (8 أو 10 سنوات) غير قابلة للتجديد، كما في كندا وإسبانيا، وذلك لضمان التحرر من الحسابات السياسية.. على أن لا يُعزل إلا بقرار من البرلمان مبني على اقتراح قضائي معلل.. كما تدرج ميزانية المحكمة كبند مستقل في قانون المالية، تُنفذ بإشرافها المباشر.. أما التقارير فتُرفع مباشرة إلى البرلمان وتُنشر للرأي العام، مع نسخة مبسطة للاستغلال الإعلامي.. ثم تُنظم جلسة سنوية علنية لمساءلة الحكومة عن تنفيذ توصيات المحكمة، كما يحدث في فرنسا وألمانيا..
*****
ما صرّح به الرئيس ولد أحمد طالب من أن دور محكمته “لا يتمثل في الإدانة أو التشهير”، يفرض علينا تذكيره أنَّ القضاء الرقابي، في جوهره، وُجِدَ ليُدين الخطأ ويفضح التقصير و يجرّم الجناية. فالشفافية ليست فضيلةً أدبية تربت على كتف الجاني بقفاز حرير، بل هي وظيفة دستورية تقتضي كشفَ الانحراف، لا تلطيفَه بتعابير تكنوقراطية.. ثم، إنّ الالتزام بـ “المنهجية” لا يُبرّر التستّر على التجاوز، ولا يُلغي حقّ المواطن في أن يعرف أين ذهبت أمواله، ومن المسؤول عن إهدارها. فالإعلام،، ليس خصمًا؛ بل صدى الضمير العام حين تخرس المؤسسات، و الحلّ ليس في صمت الصحافة، بل بتمكينها من المعلومات الكاملة في وقتها، دون انتخال أو وصايةٍ معرفية.. ومن يطلب من الصحفي “الرجوع إلى الفنيين”، إنما ينسى أن وظيفة المحكمة الرقابة على الأداء المالي، بينما وظيفة الصحافة الرقابة على الأداء المؤسسي ذاته، بما في ذلك محكمة الحسابات. والرقابة التي تخشى الصدى، إنما تضع مساحيق تجميل للعجز لكنها لا تغيّر الواقع.. أما هذه المواقف و التصريحات التي تزّاور عن كبد الحقيقة، كالمرآة في كف الأشل، فلا أرضاً قطعت و لا ظهر “مصداقية” أبقت..!