آوكار تحتفي بجذورها: مهرجان البادية للتراث والأصالة على أبواب يناير

في مطلع العام الجديد، وبين الثالث والسادس من يناير القادم، تستعد بلدية أم لحياظ — قلب آوكار النابض — لاحتضان واحد من أكثر المواعيد الثقافية رمزية وعمقا: مهرجان البادية للتراث والأصالة، ومع اقتراب الموعد، تبدو الصحراء كأنها تتهيأ لخلع صمتها القديم، لتستقبل أبناءها وضيوفها في عرس ثقافي يعيد للجذور صوتها، وللهوية وهجها، وللأطراف المنسية حقها في الضوء.
ليس اسم "مهرجان البادية للتراث والأصالة" مجرد تركيب لغوي جميل يرضي الأذن، ولا زينة لفظية تعلق على لافتة عابرة، بل هو خلاصة تاريخ طويل من التيه الحكيم، ومن السير على الرمل بوصفه كتابا مفتوحا، ومن الإصغاء للريح بوصفها معلما قديما.

فـ"البادية" في المخيال الموريتاني ليست جغرافيا فحسب، بل ذاكرة جمعية، وأصل الحكاية الأولى، حيث تخلقت الملامح البكر لهذا الشعب الذي تعلم من الصحراء الصبر، ومن القفر الكرامة، ومن الأفق المفتوح معنى الحرية. 
أما "التراث والأصالة"  فهما ليسا رديفين للماضي، بل وعد للمستقبل بأن ما تأسس بالجذور لا تقتلعه العواصف.
ثمة خصوصية لا تشبه سواها: إنه أول مهرجان بمعنى المهرجان يقام في قلب منطقة "آوكار" ، تلك الرقعة الشاسعة التي تمتد من ولاتة شرقا حتى تيشيت غربا، فضاء مفتوح من الرمال والرياح والرجال؛ رجال هم سدنة الصحراء، وحراس صمتها، وحملة مفاتيحها السرية.

هناك لا تقف الصحراء كفراغ جغرافي، بل ككائن حي، له ذاكرة وحكمة ولسان، يملي على القوافل قانون البقاء، وعلى الزمن أدب التواضع، وعلى الانسان الجلد والصبر.
ولا يقف المهرجان عند حدود الاحتفاء الرمزي، بل يأتي ليعرف، ويلفت، ويضيء، إنه فرصة نادرة لرفع الستار عن منطقة وضعت طويلا خارج دائرة الضوء، لا لقصور فيها، ولا عن فقر في المعنى، بل عن غياب العدسة.
إنه حدث يعيد توجيه البوصلة، ويلفت أنظار الوطن إلى فضاء ظل سرمدا يصارع صمتا إعلاميا، وتهميشا تنمويا، وبطئا في البنى التحتية، واختلالات اقتصادية تحتاج أكثر من وعود، وأكثر من خطاب. 
وفي عمقه رسالة لا تخطئها البصيرة: اللحمة.
لحمة حقيقية تنبتها الأرض حين تلتقي قلوب أبنائها
فكل أطياف المنطقة حاضرة، بمكوناتها الاجتماعية وتنوعاتها السياسية، لا كضيوفٍ عابرين، بل كشركاء في الحلم وصناع للمعنى.
ليصبح المهرجان مرآة صافية لمجتمع متكامل أطرافه، متصالح مع ذاته، متآزر في حضوره، متوحد في حلمه، ليقول إن الوطن لا يبنى بالفرقة، بل بتكامل الظلال حول شمس واحدة.

وما يزيد المشهد نقاء وهيبة أنه يولد من عرق أبنائه: من جهود أطر المنطقة، وعزم رجال أعمالها، وحكمة وجهائها، ودعمته همم ساستها. لا تمويل مريب، ولا أجندات مستوردة تحاول تفصيل الوعي على مقاس مصالحها، ولا خيوط تحرّك من خلف الستار. 
هناك، يولد الحدث من رحم الارض، ويكبر على لبانها، ويحمل ملامحها في كل تفصيل، ليكون مهرجان ينبت من تربته، ويشرب من مائه، ويستنشق هواءه.
وبهذا المعنى، ينهض المهرجان بوظيفة تتجاوز الترفيه إلى إحياء الحضور الإعلامي والثقافي للمنطقة، فيحول الفضاء الصحراوي من هامش جغرافيٍ مهجور إلى مركز نابض للحدث الثقافي، ويزرع في 
نفوس السكان شعورا عميقا بالاعتراف والاعتزاز بالهوية والانتماء.

إنه مشروع ذاكرة، لا يستدعي الماضي ليبكيه، بل ليصونه؛ لا يستحضر التراث ليحنطه، بل ليبث فيه روحا جديدة، فتبقى قيم الكرم، والشجاعة، والوفاء، والتكافل حية في الذاكرة الجمعية، متوهجة في سلوك الأجيال.
يشارك أهل المنطقة في صناعة الحدث لا في مشاهدته فقط، فيصبح كل فرد سطرا في نصه، وكل خيمة فقرة في بيانه، تتنوع الفعاليات بين سباقات تقليدية، وشعر فصيح وشعبي يقطر حكمة، وعروض فروسية تكتب على الرمل ملاحم من المجد، وحرف يدوية تنطق بأصابع الزمن، وأزياء تراثية تمشي على الأرض كأنها تنفض الغبار عن ذاكرة القرون.

ثقافيا، يقدم المهرجان إضافة لا تقاس بعدد العروض، بل بعمق الأثر، إنه يوثق الموروث الشفهي من شعر وحكايات وأمثال ومرويات وتاريخ، ويخلق جسر بين الأجيال، حيث تسلم الذاكرة مفاتيحها للأبناء دون خوف من الضياع، وتقدم الثقافة البدوية لا بوصفها ترفا فولكلوريا، بل كرصيد إنساني وحضاري يثري الهوية الوطنية ويعمّق معناها

اقتصاديا واجتماعيا، لا يأتي المهرجان عابر، بل يحرك التجارة، ينشط الأسواق، ويعيد القيمة للمنتجات التقليدية، يفتح نوافذ العمل أمام الشباب والنساء، ويعيد رسم صورة المنطقة بوصفها وجهة ثقافية وسياحية بعد أن ظلت طويلا حبيسة خرائط النسيان.
وفي عمقه الأعمق، يحمل المهرجان رسائل لا تخطئها الفطرة: أن الهامش قادر على أن يصير مركزا إذا توفرت له الإرادة؛ أن الصحراء ليست فراغا ممتدا، بل ذاكرة تمشي على أقدام أهلها؛ وأن التراث ليس بقايا زمن غابر، بل مشروع مستقبل يبنى لبنة لبنة، وقيمة فقيمة.
وإذا كان الحاضر بهذا الغنى، فإن الأفق مفتوح على ما هو أوسع: أن يدرج المهرجان ضمن الأجندة الوطنية للثقافة والسياحة، وأن يتطور إلى منتدى دولي للثقافات البدوية، وأن يجذب الباحثين والموثقين للتراث اللامادي من كل صوب، ليصبح منصة علمية وثقافية لا حدثا موسميا عابرا.
هكذا، لا يكون مهرجان البادية للتراث والأصالة احتفالا عابرا في صحراء، بل صحراء كاملة تحتفل بذاتها، وتعلن — على رمال تعرف معنى الزمن — أن لها صوتا، ولها وجها، ولها مكانا مستحقا تحت شمس الوطن.