منذ عقود، ونحن نقرأ تاريخنا الحديث كما لو أنه كتب من شرفة المدينة وحدها. تتكدس الأحداث حول الإدارات، والعواصم، والمؤسسات، بينما تمتد خارج هذا الإطار مساحات شاسعة من الذاكرة غير المكتوبة , البادية، بما هي أكثر من جغرافيا، وأكثر من نمط عيش عابر. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، مع عودة النقاش حول مهرجان البادية، ليس سؤالا ثقافيا محضا، بل سؤالًا معرفيا وسياسيا في آن.
هل انحاز تاريخنا الحديث إلى المدن؟
لقد تشكل هذا الانحياز مع الاستعمار، ثم تعمّق مع بناء الدولة الوطنية. أصبحت المدينة معيار التقدم، والاستقرار عنوان الحداثة، وتحولت أنماط العيش البدوية إلى ما يشبه “بقايا الماضي” التي ينبغي تجاوزها. هكذا، لم تُمحَ البادية من الواقع، لكنها أُقصيت من السرد؛ حاضرة في الحنين، غائبة في التحليل، ومختزلة في صور فولكلورية لا تعكس عمقها الاجتماعي والثقافي.
المدينة امتلكت أدوات كتابة التاريخ مثل الأرشيف، المدرسة، الصحافة، والجامعة. أما البادية، فقد حافظت على ذاكرتها عبر الثقافة الشفوية؛ في الشعر الحساني، والحكاية، والأمثال، وسير الرجال والنساء الذين صاغوا فن العيش مع الندرة. غير أن هذه الذاكرة، رغم قوتها التداولية، ظلت ضعيفة الاعتراف المؤسسي، وكأنها معرفة من درجة ثانية لا ترقى إلى أن تكون تاريخا.
هذا الاختلال في السرد جعلنا نقرأ تحولات المجتمع قراءة مبتورة. فالانتقال من البادية إلى المدينة لم يكن مسارًا طبيعيا نحو “الأفضل”، بل كان في كثير من الأحيان انتقالًا قسريا، فرضته الجفاف، والسياسات الاقتصادية، وتغير أنماط العيش. ومع ذلك، نادرا ما سُئل عمّا فُقد في الطريق ، منظومات التضامن، أخلاقيات الاكتفاء، الحكمة المتراكمة في تدبير الموارد، والقدرة على التعايش مع الهشاشة دون تفكك اجتماعي.
في هذا السياق، يكتسب مهرجان البادية دلالة تتجاوز الطابع الاحتفالي. إنه ليس استعادة نوستالجية للماضي، ولا عرضا فولكلوريا للاستهلاك السياحي، بل محاولة رمزية لإعادة الاعتبار لذاكرة أُبعدت طويلًا عن المتن. فحين تُستدعى الثقافة الشفوية إلى الفضاء العام، وحين يُعاد الاعتراف بأن البادية صاغت جزءًا أساسيًا من المجتمع البيظاني، فإننا لا نحتفي بالماضي بقدر ما نُعيد طرح سؤال الحاضر.
هل يمكن كتابة تاريخ وطني متوازن دون إدماج المنطقة المفتوحة بوصفها فاعلًا تاريخيًا؟ وهل يمكن التفكير في التنمية والهوية والحداثة دون الإنصات إلى فن العيش مع الندرة الذي أثبت، عبر قرون، قدرته على الصمود والتكيّف؟
إن أخطر ما في انحياز التاريخ إلى المدن ليس تهميش البادية، بل تهميش جزء من ذواتنا. فالمجتمعات التي تنسى جذورها لا تفقد ماضيها فقط، بل تفقد أيضا مفاتيح فهم أزماتها الراهنة. من هنا، يصبح استحضار البادية اليوم فعل مقاومة ثقافية هادئة، وسعيًا لإعادة التوازن إلى ذاكرة وطنية تحتاج أن تُكتب من الداخل، ومن الخارج، ومن المدينة، ومن الرمل المفتوح على الأفق.
أحمد محمود الطيب المختار ، باحث في علم الاجتماع
