أريد أن يكون تفكير مواطني هكذا..(مقال راي)

 

بقلم: الشيخ اكار عبد اللطيف

الاستقلال من مادة استقلَّ، وهو اصطلاحًا فكّ الارتباط والتبعية عن شخص أو عن شيء، وهو أيضًا مفهوم حديث يعني الانفصال المادي والمعنوي التام عن سلطة المستعمِر.
وتظل كلمة "المستعمِر" تعبّر دائمًا عن شخص أو شيء مُجرَّد تتحقق له التبعية، أو يُخاف منه، أو تُطلب منه الحاجة.

فهل نحن مستقلون بهذا المعنى؟

وللإجابة عن هذا السؤال، فتّش في نفسك أيها الشاب، أيها الشيخ، أيتها السيدة: هل نحن فعلًا مستقلون أم مُستغَلّون؟
والحقيقة أن الاستقلال يعني في أحد معانيه الحرية، وهي قصة أخرى، كما يعني الوعي، وهو حديث آخر ذو شجون.

فالحرية والوعي والمسؤولية أضلاع مثلث قائم لا تستقيم المدنية بدونه. وهو ثلاثي مرتبط ارتباطًا وثيقًا ومتشابكًا حدّ التعقيد؛ فلا حرية دون وعي، ولا وعي دون معرفة كاملة بالواجب قبل المطالبة بأبسط الحقوق، ولا حرية دون مسؤولية، كما أنه لا مسؤولية دون وعي. وبتكامل هذه الأركان الثلاثة يتحقق الوعي بالحرية والجدارة بالحقوق، وتتحقق المسؤولية الاجتماعية، ويكون الفرد فينا مدنيًا ومسؤولًا وحرًا ومستقلًا. ثم إن الوعي الفردي هو أساس الوعي الجماعي والمسؤولية والاستقلال.

إن اهتمام كلٍّ منا بواجبه، دون النظر إلى سلوك الآخرين المعيب والمتناقض مع متطلبات المدنية، أمر يحقق الغاية الاجتماعية في النهاية، ويصبّ في المصلحة العامة. وعلى رأي هيغل، تتحقق المصلحة العامة أو الكلية بسعي الأفراد إلى تحقيق ذواتهم. وللمدرسين في الصفوف الدراسية تجربة بسيطة قد تعطي مثالًا على ذلك؛ إذ يطلب المدرس من الطلاب –وهم في حالة من الفوضى العارمة بعد محاولاته المتكررة لإسكاتهم– أن يلتزم كل واحد منهم بتطبيق القانون على نفسه، ثم يصمت. فلا يكلّف أحدًا بغير نفسه، فيعمّ الصمت ويصبح سلوكًا عامًا. وما ينطبق على الجزء ينطبق على الكل؛ ففي القسم مثال على المجتمع، وفي قاعة الدرس مثال على الحوزة الترابية، وفي قانونه مثال على دستور البلاد، كما أن المدرس أمام طلابه مثال للوالي أو الحاكم أو وزير الداخلية أو رئيس الجمهورية أمام رعيّته: ليلتزم كلٌّ منا بإسكات نفسه والالتزام بالقانون، فيعمّ الهدوء.

وهنا قد يقول قائل: “سأظل مظلومًا وساكتًا عن الظلم”. فأقول: وهل يجدي الكلام عن الظلم والناس في فوضى؟ ثم إن الهدوء يفسح مجالًا للتنمية والنظر في مشاكل الناس حين تتوفر الإرادة. وأعتقد أن الوقت بات مناسبا لذلك أكثر من أي وقت مضى. ثم إن ظهور أشخاص محددين يخرقون القانون، في مقابل جمهور كبير يقوم بواجبه، أدعى لتطبيق القانون على تلك القلة القليلة، وأسهل في تقريب وجهات النظر بين الغالبية، وأقرب طريقًا للضغط على النظام القائم ليسير في الاتجاه الصحيح.

وبالعودة إلى مفهوم الاستقلال –الذي لا يبعد كثيرًا عن مفهوم الالتزام– نحدد مفهومين أساسيين: استقلال الدولة واستقلال الفرد المجتمعي. فشعور الفرد بقيمته داخل دولة لا تعتمد على الغير في غذائها وأمنها وتعليمها وصحتها وقانونها، مدعاة أكبر للفخر والاعتزاز بقيمة الاستقلال من التفاخر بأمجاد من سبقوا، ف﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

إن نظرة الحاكم إلى رعيته حين تكون بعيدة عن طموحه في النظام العام، وتحديد الأولويات، والحفاظ على المكتسبات، وتحقيق تنمية حقيقية، تخلق لديه ضبابية وضيقًا في الأفق وإحباطًا. كما تفتح المجال أمام المفسدين من بطانته لتغيير مسار الإنجازات، وتكريس الشعور بالإحباط، وزيادة انسداد الأفق، في انتظار نضوج وعيٍ مجتمعي لن يحققه لنا غير أنفسنا.

وأخيرًا، دعونا نستغل إرادة الحكومة، واستعداد القيادة الحالية، وفرصة الحماس لدولة التنمية والقانون والمساواة، ومأمورية المصالحة، وسانحة الحوار؛ لنستقلّ بوعينا، ونتحرر بمسؤوليتنا، من أجل تنمية وطنية وازدهار حقيقي، لا شعارات وأصباغ ومساحيق.