استدار الزمان، بحركة سريعة، فما رأيناه ذات صباح انبلاجا في سدف الغيب، وانطلاقا للمجد من عقال الخذلان، وزلزالا مدويا على مقاييس الإبراهيمية، التي لم تجد يوما أكثر ألما في مسارها المتصهين، ولا كيوم السابع من أكتوبر.
كانت آلة القتل أيضا سريعة بحكم ذلك الإرهاب الفظيع الذي مارسته آلة الإبادة الصهيونية، وهي تفتك بكل ما يدب للحياة بصلة، أكثر من ستين ألف شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى، ومدينة كانت تسامق الشمس عزة، وشموخا، فإذا هي بها قاعا صفصفا على مرأى ومسمع من العالم، بل ومن العالم القريب..
سنتان مرت كلمح البصر، بل مرت كلهب الصواريخ، كسرعة الموت الزؤام، وزمن الخذلان وموت الضمير..
إنه يوم السابع من أكتوبر يوم من أيام الله، وامتحان للأمة الصابرة، فازت فيه بما قدمت من تضحيات هي الأعلى في تاريخ العصر إن لم تكن الأعلى في تاريخ قرون كثيرة من حياة المسلمين.
خذل العالم غزة، بل وتكالب عليها، وسرعان ما سرى الدم الغزي في عروق وأمم وأعراق كانت مغيبة بفعل الدعاية الصهيونية، والإعلام الغربي الأسير لرغبات المستعمر والسياسات والفلسفات الصهيونية المتحكمة في العالم، مابعد الحرب العالمية الأولى وسقوط دولة الخلافة وتقاسم أرض المسلمين واستبحاة أرضهم وعرضهم ونهب خياراتهم..
فإذا الدنيا انتفاضة، وإذا قوافل الحرية تمخر عباب الأمواج وثبج البحر، وإذا الصهيوني ذليلا، يخاطب الكراسي بعد أن انسحب العالم من وجهه، وتركه يلقع شؤمه وإرهابه.
وحدها الحكومات العربية ظلت مبنجة يسير الزمن وهي غافية في أحضان الذل والاحتقار، إلا ثلة قليلة، أما غيرهم فقد كان يدا على المقاومة لا لها.
لقد أعاد الطوفان تشكيل الوعي العام للأمة بل وللعالم، والإنسانية اليوم تمور بتحولات كبيرة، ستكون كلها في صالح الإسلام تمهيدا وتوسعا، والعدالة رسوخا وتمددا.
لكن العالم أيضا مقبل على هزات أخرى أشد فظاعة مما حصد الطوفان من أرواح الغزاويين، ولا شك أن الأمم والحكومات الخاذلة بل والمتمالئة ضد مأساة غزة، لن تعدم يوما قريبا تنال فيه نصيبها من الخذلان، وتشرب من الكأس التي ذاقت بل وأشد.
إن المتغيرات الجديدة تفرض على البلدان والشعوب والتيارات مراجعة نفسها، بل وأكثر من ذلك، تفرض عليها البحث عن النموذج الذي ينبغي أن يسود وأن يتمثل، ولا شك أن حرب غزة أظهرت بقوة أن شعوبنا في الغالب كانت تعيش في ظل حالة خمول فكري وسياسي عميق، وفي ظل ترف ثقافي، لا علاقة له بالاستنهاض وبناء الإنسان القادر على إنهاء طغيان الصهيونية، فجاء السابع من أكتوبر ليقرع سمع العالم ووجدان الفكر، وسيصنع جيلا جديدا، لن يكون ذلك الرتيب، الهادئ حبيس المصطلحات العتيقة والتنظير الفارغ.
إن ثقافة القتل و انعدام الرحمة ليست بغريبة على العدو الصهيوني ومن ورائه العالم الأنكلوسكسوني القاتل المجرم، وهل قامت أمريكا التي تتحدث عن حقوق الإنسان إلا على جثث وأشلاء سكتن أمريكا الأصليين، حين تناوشهم من الردى داعيان.. وكأن الأمر قضي في ثوان..
ألم تقتل أمريكا مطلع القرن العشرين سكان الفلبين إلا قليلا منهم.
ألم تقم الإمبراطوريات الغربية باستعباد سكان افريقيا وتنقل ما لايقل عن مائة مليون إنسان إلى أمريكا مات أغلبهم في طريق البحر..
ألم تقتل أمريكا اليابانيين بالقنبلة النووية..
ألم يغتصب جنود الحلفاء نساء آلمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
ماهو حال العراق وأفغانستان بعد الغزو الأمريكي إلا التشريد والقتل والاغتصاب والتهجير والاختفاء القسري..
هل ننسى أن أمما أبيدت وهجرت وغيرت الديمغرافيا كما حدث في الأندلس السليب وكما حدث في البلقان، والقوقاز..
أين رحمة الغرب الصهيوني وهو يشاهد المجازر التي اقترف الصرب بحق سكان البوسنة والهرسك..
إن الأمة الوحيدة التي لم تتعرض لأتباع الأديان والنحل هي أمة الإسلام.
فقبل مائة سنة من الآن لم يكن في فرنسا ولا في إيطاليا مسجد ولامسلم، وخلافا لذلك بقي النصراني( الأرتدوكسي) في المشرق من أيام عمر ابن الخطاب، وبقيت كنيسته ( القيامة) من نفس الأيام، وبقي الكاثلوكي الذي غزا الشام في الحروب الصليبية يحمل الخراب والدمار زمع ذلك تركته جول المسلمين المتعاقية يعيش بسلام رغم أنه قدم لتلك البلاد قاتلا وغازيا وماربا، وهي عظمة الإسلام وقوته، فهل سمعتم بشعب أباده المسلمون.
لقد تعرض الفلسطنيون لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد طيلة قرن من الزمن ودفعوا فاتورة الاستعمار من أبنائم وبناتهم وحقولهم ومزارعم فلم تزدهم مؤامرات السلام أو الاستلام وضعهم إلا سوء..
قبل اتفاقيات أوسلو المشؤمة بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية حدود 100 ألف، وهاهم بعد ثلث قرن من اتفاقيات " السلام من أجل السلام" في زيادة على المليون مستوطن قادمون من اصقاع العالم الحر.
جاء السابع من أكتوبر.. جاء طوفان وفرقان، وتاريخ جديد، وميلاد أمة، وحصاد تربية، وانعطافة عميقة في تاريخ السياسة والمقاومة والجهاد، بدأت يوم أن قرع السنوار صمت "القرى المحصنة " بلهب من الغضب القسامي الهادر.